فكان جعل ترتّب الإسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف (لَوِ) مشيرا إلى أن المراد : لأدمنا عليهم الإسقاء بالماء الغدق ، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء. وبذلك يتناسب التعليل بالإفتان في قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلا لما تضمنه معنى إدامة الإسقاء فإنه تعليل للإسقاء الموجود حين نزول الآية وليس تعليلا للإسقاء المفروض في جواب (لَوِ) لأن جواب (لَوِ) منتف فلا يصلح لأن يعلل به ، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم. فلام التعليل في قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ظرف مستقر في موضع الحال من (ماءً غَدَقاً) وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال مقارنة.
وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها.
والغدق : بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير.
وجملة (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) إدماج فهي معترضة بين جملة (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) إلخ وبين جملة (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) إلخ.
ثم أكدت الكناية عن الإنذار المأخوذة من قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) الآية ، بصريح الإنذار بقوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) ، أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب.
والسّلك : حقيقته الإدخال ، وفعله قاصر ومتعد ، يقال : سلكه فسلك ، قال الأعشى :
كما سلك السّكيّ في الباب فيتق
أي أدخل المسمار في الباب نجّار.
وتقدم عند قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الحجر [١٢].
واستعمل السلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة. والمعنى : نعذبه عذابا لا مصرف عنه.
وانتصب (عَذاباً) على نزع الخافض وهو حرف الظرفية ، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.