فطاوعه ، والتبتل : الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي ، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله ، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب «إلى» الدالة على الانتهاء ، قال امرؤ القيس :
منارة ممسى راهب متبتّل
والتبتيل : مصدر بتّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع.
وجيء بهذا المصدر عوضا عن التبتل للإشارة إلى أن حصول التبتل ، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطع. ولما كان التبتيل قائما بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين (تَبَتَّلْ) و (تَبْتِيلاً) مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء برعي الفواصل التي قبله.
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلىاللهعليهوسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشئونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم مثل الطّيب ، وتزوج النساء ، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه ، وقد قال : «حبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب».
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة.
وفي حديث سعد في «الصحيح» «ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا» يعني ردّ عليه استشارته في الإعراض عن النساء.
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك ، وهو معنى الحنيفيّة ، ولذلك عقب قوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).
وخلاصة المعنى : أن النبي صلىاللهعليهوسلم مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق ، وإذ قد كان النبي صلىاللهعليهوسلم من قبل غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنّث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة. فالأمر في قوله : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم [٥١] (وقد نزلت قبل المزمل) (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ