وقرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب وخلف (إِذْ أَدْبَرَ) بسكون ذال (إِذْ) وبفتح همزة (أَدْبَرَ) وإسكان داله ، أقسم بالليل في حالة إدباره التي مضت وهي حالة متجددة تمضي وتحضر وتستقبل ، فأي زمن اعتبر معها فهي حقيقة بأن يقسم بكونها فيه ، ولذلك أقسم بالصبح إذا أسفر مع اسم الزمن المستقبل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والكسائيّ وأبو جعفر إذا دبر بفتح الذال المعجمة من إذا بعدها ألف ، وبفتح الدّال المهملة من دبر على أنه فعل مضي مجرد ، يقال : دبر ، بمعنى : أدبر ، ومنه وصفه بالدّابر في قولهم : أمس الدّابر ، كما يقال : قبل بمعنى أقبل ، فيكون القسم بالحالة المستقبلة من إدبار الليل بعد نزول الآية ، على وزان (إِذا أَسْفَرَ) في قراءة الجميع ، وكل ذلك مستقيم فقد حصل في قراءة نافع وموافقيه تفنن في القسم.
و (الْكُبَرِ) : جمع الكبرى في نوعها ، جمعوه هذا الجمع على غير قياس بابه لأن فعلى حقها أن تجمع جمع سلامة على كبريات ، وأما بنية فعل فإنها جمع تكسير لفعلة كغرفة وغرف ، لكنهم حملوا المؤنث بالألف على المؤنث بالهاء لأنهم تأولوه بمنزلة اسم للمصيبة العظيمة ولم يعتبروه الخصلة الموصوفة بالكبر ، أي أنثى الأكبر فلذلك جعلوا ألف التأنيث التي فيه بمنزلة هاء التأنيث فجمعوه كجمع المؤنث بالهاء من وزن فعلة ولم يفعلوا ذلك في أخواته مثل عظمى.
وانتصب (نَذِيراً) على الحال من ضمير (إِنَّها) ، أي إنها لعظمى العظائم في حال إنذارها للبشر وكفى بها نذيرا.
والنذير : المنذر ، وأصله وصف بالمصدر لأن (نَذِيراً) جاء في المصادر كما جاء النكير ، والمصدر إذا وصف به أو أخبر به يلزم الإفراد والتذكير ، وقد كثر الوصف ب (النذير) حتى صار بمنزلة الاسم للمنذر.
وقوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) بدل مفصل من مجمل من قوله (لِلْبَشَرِ) ، وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥] ، وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير : ٢٧ ، ٢٨] وقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة : ١١٤]. والمعنى : إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإيمان والخير لينتذر بها ، ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدّم مشي إلى جهة الإمام فكأنّ المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو