شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).
وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصل إذا شاءوا التذكر به. والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك ، وقد تقدم في سورة المزمل.
وجملة (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) معترضة في آخر الكلام لإفادة تعلمهم بهذه الحقيقة ، والواو اعتراضية.
والمعنى : أن تذكّر من شاءوا أن يتذكروا لا يقع إلّا مشروطا بمشيئة الله أن يتذكروا ، وقد تكرر هذا في القرآن تكررا ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [التكوير : ٢٩] وقال هنا (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاء في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري ، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة ، وهما عبارتان متقاربتان ، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر ، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد.
وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية ، وبالخذلان إذا تعلقت بتركه في ضلاله الذي أوبقته فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإعراض عن شرائع الله ودعوة رسله ، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوحال الضلال وبإنارة سبيل الخير لبصيرته سميت لطفا مثل تعلقها بإيمان عمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد ، وهذا تأويل قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥].
هذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله ، والأدلة التي اقتضت المؤاخذة على الضلال ، وتأويلها الأكبر في قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٨ ، ٧٩] ولله في خلقه سرّ جعل بينهم وبين كنهه حجابا ، ورمز إليه بالوعد والوعيد ثوابا وعقابا.