قال : فخرجت ثقيف يتلقّون الوفد. فلما رأوهم قد ساروا العنق (١) ، وقطروا الإبل ، وتغشّوا ثيابهم ، كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخير. فلما رأت ثقيف ما في وجوههم قالوا : ما وفدكم بخير ولا رجعوا به. فدخل الوفد فعمدوا (٢) اللّات فنزلوا عندها. واللّات بيت بين ظهري الطائف يستر ويهدى له الهدي ، كما يهدى للكعبة.
فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها : إنه لا عهد لهم برؤيتها. ثم رجع كل واحد إلى أهله ، وجاء كل رجل منهم خاصّته فسألوهم فقالوا : أتينا رجلا فظّا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء ، قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودانت له الناس. فعرض علينا أمورا شدادا : هدم اللّات ، وترك الأموال في الرّبا إلّا في رءوس أموالكم ، وحرّم الخمر والزّنا ، فقالت ثقيف : والله لا نقبل هذا أبدا. فقال الوفد : أصلحوا السلام وتهيّئوا للقتال ورمّوا حصنكم. فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال. ثم ألقى الله في قلوبهم الرّعب ، فقالوا : والله ما لنا به طاقة ، وقد أداخ العرب كلّها ، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل. فلما رأى ذلك الوفد أنهم قد رعبوا قالوا : فإنّا قد قاضيناه وفعلنا ووجدناه أتقى الناس وأرحمهم وأصدقهم. قالوا : لم كتمتمونا وغممتمونا أشدّ الغمّ؟ قالوا : أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان. فأسلموا مكانهم.
ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قد أمّر عليهم خالد بن الوليد ، وفيهم المغيرة. فلما قدموا عمدوا للّات ليهدموها ، واستكفّت ثقيف كلها ، حتى خرج العواتق (٣) ، لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة. فقام المغيرة فأخذ الكرزين (٤) وقال لأصحابه : والله لأضحكّنكم منهم. فضرب بالكرزين ، ثم
__________________
(١) العنق : ضرب من السير فسيح سريع ، للإبل والخيل.
(٢) عمد الشيء يعمده ، كعمد له وإليه : قصده.
(٣) العواتق : جمع عاتق وهي الجارية أول ما أدركت أو التي لم تتزوج.
(٤) الكرزين : فأس كبيرة لها حدّ ورأس واحد ، أو نحو المطرقة.