وعند ذلك : فإما أن تكون هذه الأمور دالة على اختصاصه بالقرآن وأنه لم يظهر إلا على يده ، أو لا تدل عليه.
فإن كان الأول : فهو المطلوب ، على أن كل عاقل ناظر إلى هذه الأحوال يعلم ضرورة اختصاص القرآن به دون غيره.
وإن كان الثانى : فمع بعده فلا نسلم تصور إظهاره له مع التحدى ودعوة النبوة ؛ بل لو كان كاذبا فى دعوى الرسالة فالله ـ تعالى ـ يطمس على قلبه ، ولسانه بحيث لا يقدر على الإفصاح بآية منه ، وإن أقدره الله على إظهاره ؛ فلا بد وأن يقيض له من يكذبه.
أما أن يكون ذلك الشّخص حافظا للقرآن فيبتدر إلى تلاوته وإظهار تكذيبه ، أو بالمعارضة بمثله ؛ بل أبلغ من ذلك وهو أن أحدا لو أخذ حجر المغناطيس الجاذب للحديد بخاصية به ومضى به إلى بلد لا يعرف ذلك الحجر فيه ولا سمع به وادّعى النّبوّة وجعل آية صدقه جذب ذلك الحجر الحديد ، كما جعل موسى آيته بلع عصاه للعصى.
فقد قال القاضى أبو بكر ، والأئمة من أصحابنا : أنه لا يتمكّن منه ؛ بل لا بدّ وأن تذهب تلك الخاصيّة عن حجر المغناطيس فى ذلك الموضع ، أو أن يقيّض الله ـ تعالى ـ له أمثال ذلك الحجر فى ذلك الموضع مع شخص آخر يظهر به كذبه ، وافتراه.
قولهم : إن الهيئة الاجتماعية صادرة عنه دون مفردات الكلمات وآحاد الآيات : عنه أجوبة :
الأول : أنه لو كان الأمر على ما ذكروه ؛ لاستحال فى العادة مع تحديه على العرب ، وتعجيزهم عن الإتيان بمثله ، إذ لا يبادروا إلى الرد عليه بأنّ آحاد الآيات ليس من كلامك ، وإنما هى لغيرك ولو وجد ذلك لاشتهر كما اشتهر ارتداد كاتب الوحى عند قوله (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١) وقول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ له اكتب هذا فهكذا أنزل ، فإن العادة تقتضى ذلك وتحيل عدم اشتهاره.
__________________
(١) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٤. وكاتب الوحى الّذي ارتد عن الإسلام هو عبد الله بن أبى سرح الّذي كان يكتب الوحى لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التى فى (المؤمنين) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) دعاه النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأملاها عليها ؛ فلما انتهى إلى قوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) عجب عبد الله فى تفصيل خلق الإنسان فقال : «تبارك الله أحسن الخالقين». فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «هكذا أنزلت عليّ» فشك عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلى كما أوحى إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ؛ ـ