وعلى هذا : فلا يلزم من كون القرآن لم يظهر كونه معجزا بالنظر إلى أحد ما بيناه من وجوه الاعجاز أن لا يكون معجزا بالنظر إلى جملتها ، أو جملة منها. فإنا قد نجد بعض القادرين يقوى على البلاغة فى النثر دون النظم. والبعض يقوى على النظم. دون البلاغة فى النثر ، وما لزم من كون كل واحد بانفراده مقدورا ؛ أن يكون الجميع مقدورا ، ولا أن ما ثبت للأفراد ؛ يكون ثابتا للجملة.
قولهم : لا نسلم أن وزن القرآن مخالف لأوزان العرب. إذ هو مشتمل على أوزان الشعر على ما قرروه. عنه جوابان :
الأول : أن ما ذكروه من الآيات ليست موزونة إلا مع تغيير وتكلف من إشباع حركة ، أو حذف ، أو زيادة ، أو نقصان ، وعند ذلك فيخرج عن وزن القرآن ، ولا يعد قبله موزونا ، ولا شعرا.
الثانى : أن ما ذكروه وإن كان بعضه موزونا على وزن الشعر ؛ غير أنه لا يعد شعرا ، ولا قائله شاعرا ؛ لأن الشّعر ما قصد وزنه وتناسبت مصاريعه ، واتحد / رويّه.
وما ذكروه ليس كذلك ؛ بل هو من قبيل ما يقع للبلغاء على الشذوذ فى سرد كلامهم ، وخطبهم ، وممن لا يعرف بالقدرة على وزن الشعر من الكلمات المترتبة كما لو قال السيد لعبده أغلق الباب ، واحضر لى طعامى. أو قال اسقنى فى الكوز ماء يا غلامى وما أشبه ذلك ؛ فإنه متزن ، ومن علم الشعر ، وعرف مذاهبه وأحاط بأعاريضه من الأدباء. لم يقض على ذلك بكونه شعرا ولا أن قائله شاعر.
ولهذا قال الوليد بن (١) المغيرة بعد أن طالت محاولته لمعارضة القرآن ، وتوقع الناس منه ذلك : لقد عرضت هذا الكلام على خطب الخطباء ، وشعر الشعراء ؛ فلم أجده منهما.
قولهم : وإن كان وزنه مخالفا لأوزان العرب ؛ فلا يمكن أن يكون معجزة بانفراده. مسلّم. ولكن لا يلزم أن لا يكون مع البلاغة ، والإخبار بالغيب معجزا كما سلف.
وعلى هذا فقد يخرج الجواب عن قولهم إن بلاغته لا تكون معجزة. كيف وأن ما ذكروه فى تقريره من الوجوه الخمسة باطل : ـ
أما الوجه الأول : فإنه وإن التبست البلاغة بين قصار السور وغيرها من كلام البلغاء ؛ فلا يلزم الالتباس فى المثانى ، والطوال منها.
__________________
(١) الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم من زعماء قريش فى الجاهلية ولد سنة ٩٥ ق. ه سنة ٥٣٠ م وعمر طويلا ، وأدرك الإسلام وهو شيخ هرم ؛ فعاداه وقاوم دعوته ونزل فيه قرآن يتلى فضحه وكشف أمره ، هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر ، وهو والد سيف الله خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ (الكامل لابن الأثير ٢ / ٢٦ والأعلام للزركلى ٨ / ١٢٢).