من المحال ، وأخبث ما قيل به في الإحالة من الأقوال.
ومن (١) قولهم إن الأشياء لا تتغير عن جواهرها ، (٢) وقد ترون أنها تتغير عن صورها ، فصورة النور مؤنسة مضيّة ، وصورة الظلمة موحشة ظلمية ، فإذا ما هما امتزجا عوين مزاجهما بصورة في المزاج (٣) أخرى ، ليست بما كان يرى ، لا مؤنسا مضيا ، ولا موحشا ظلميا ، فمن أين كانت هذه الصورة الثالثة؟ إلا أن الأمور حادثة ، ولكن القوم يلعبون بنفوسهم ، ويقولون بخلاف ما يجدون من محسوسهم ، وليس ببدع ممن جسر (٤) على قول الزور والبهتان ، أن يجحد بلسانه ما يدركه بشواهد العيان ، فيزعم أن الرطب يبس ، وعشر العدد خمس ، وإنما التبيان في الحقائق الموجودة ، ما يدرك منها بشواهدها المشهودة.
وزعموا أن الشيء لا يكون أبدا ، إلا مثل جوهره مجتمعا ومفردا ، وشأن النور العلو والارتفاع ، وشأن الظلمة السفول والاتضاع ، وكذلك شأن كل ضدين ، متى وجدا متضادين ، متى علا هذا ، هوى هذا ، فهو أبدا يهوي إذا ضده سما ، ويسمو إذا ضده هوى ، وفي فراق الشيء لشأنه ، حقيقة فنائه وبطلانه ، كالنار التي من شأنها التسخين ، واللين الذي لا يكون إلا وله تليين ، فمتى بطل شأناهما ، بطلت لا بد عيناهما ، لأنه لا حار إلا مسخّن ، ولا ليّن أبدا إلا مليّن.
وقد زعموا أن النور قد زال عن داره من العلى ، وصار إلى هذه الأرض السفلى ، وفي ذلك من تغيّره ، ما قد قيل من بطلان عينه. وكذلك الظّلمة في بطلانها ، إذا صارت إلى خلاف شأنها ، فصارت في منزلها سفلا ، إلى ارتفاع ومعتلى ، فهما في قولهم قد بطلا ، وقد يوجدان بالعيان علوا وسفلا ، وهذا نفس متناقض المحال ، وعين متدافع الأحوال ، إذ في أن يبطلا فقدانهما ، وفي أن يوجدا بطلانهما ، فعدمهما وجود ، وغيبتهما
__________________
(١) في (أ) : وأما.
(٢) في (ب) : جوهرها.
(٣) سقط من (ب) و (د) : في المزاج.
(٤) في (ب) و (ج) و (د) : ببديع. وفي (أ) و (ج) : خسر. وفي (ب) و (د) : حسر. وكلاهما مصحفتان. والصواب ما أثبت. والجسر : الإقدام ، والمضي ، والجرأة.