فأخبر تعالى أن في الناس من يستكبر عن السجود له فلا يسجد ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد : آية ١٥].
فبين تعالى أن السجود كرها غير السجود بالطوع الذي هو السجود المعهود عندنا. وإذ قد أخبر الله تعالى بهذا وصح أيضا بالعيان ، فقد علمنا بالضرورة أن السجود الذي أخبر الله تعالى أنه يسجده له من في السموات والأرض هو غير السجود الذي يفعله المؤمنون طوعا ، ويستكبر عنه بعض الناس ، ويمتنع منه أكثر الخلق. هذا مما لا يشك فيه مسلم ، فإذ هو كذلك بلا شك فواجب علينا أن نطلب معنى هذا السجود ما هو؟ ففعلنا فوجدناه مبينا بلا إشكال في آيتين من كتاب الله وهما قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [سورة الرعد : ١٥]. وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) [سورة النحل : ٤٨].
فبين تعالى في هاتين الآيتين بيانا لا إشكال فيه : أن ميل الفيء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذي ظل هو معنى السجود المذكور في الآية ، لا السجود المعهود عندنا. وصح بهذا أن لفظة السجود هي من الأسماء المشتركة التي تقع على نوعين فأكثر. وأما قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك ، واللسان والشفتين والأضراس بهواء يصل إلى أذن السامع فيفهم به مرادات القائل ، فإذ لا شك في هذا فكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق فلا يكون منه القول المعهود منا. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل ، فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته فإنه ليس هو القول المعهود عندنا ، لكنه معنى آخر فإذ هذا كما ذكرنا فبالضرورة قد صح أن معنى قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) إنما هو الجري على نفاذ حكمه عزوجل فيهما وتصريفه لهما. وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال (١) وإباية كل واحد منها وإشفاقها فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك.
وهذا نص قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)
__________________
(١) في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) سورة الأحزاب : الآية ٧٢.