[سورة الكهف : ٥١] فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق وأن له مبدأ لا يشبهه البتة ، فأراد معرفة كيف كان فقد دخل في قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [سورة النور : آية ١٥].
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة إلّا وقد جعل فيها تمييزا لما عرض عليها ، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها ، فلما أبتها وأشفقت منها سلبها ذلك التمييز وتلك القوة ، وأسقط عنها تكليف الأمانة. هذا ما يقتضيه كلامه عزوجل ، ولا مزيد عندنا على ذلك. وأمّا ما كان بعد ابتداء الخلق فمعروف الكيفيات قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [سورة الأنعام : ١١٥].
فصح أنه لا تبديل لما رتبه الله تعالى مما أجرى عليه خلائقه ، حاشا ما أحال فيه الرتب والطبائع للأنبياء عليهمالسلام. فإن اعترضوا أيضا بقول الله تعالى يصف الحجارة : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [سورة البقرة : ٧٤].
فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء آية : ١٥].
فإذ لا شك في هذا فإن القول المذكور منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه :
إحداها أن يكون الضمير في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) الآية.
فذكر تعالى : أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى. وهذا أمر يشاهد بالعيان فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ويخشى العاصي.
وقد أخبر عزوجل أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم. وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر تعالى أن (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [سورة التوبة آية : ٩٧]. فهذا وجه ظاهر متيقّن الصحة.
والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره كما قلنا في قوله تعالى عزوجل حاكيا عن السماء والأرض : (قالَتا أَتَيْنا