قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذا لا يخفى على من له أقل فهم : أنه إنما حملهم على ذلك العجز عما كلفهم من ذلك وارتفاع القوة عنهم ، وأنه قد حيل بينهم وبين ذلك ، ثم عمر الدنيا من البلغاء الذين يتخللون بألسنتهم تخلل الباقر (١) ويطيلون في المعنى التافه إظهارا لاقتدارهم على الكلام ، جماعات لا بصائر لهم في دين الإسلام منذ أربعمائة عام وعشرين عاما ، فما منهم أحد يتكلّف معارضته إلا افتضح وسقط ، وصار مهزأة ومعيرة يتماجن به ، ويتطايب عليه ، منهم «مسيلمة» بن حبيب الحنفي ، لما رام ذلك لم ينطق لسانه إلا بما يضحك الثكلى ، وقد تعاطى بعضهم ذلك يوما في كلام جرى بيني وبينه ، فقلت له : اتق الله على نفسك ، فإن الله تعالى قد منحك من البيان والبلاغة نعمة سبقت بها ، وو الله لئن تعرضت لهذا الباب بإشارة ليسلبنك الله هذه النعمة ، وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة ، كما فعل بمن رام هذا من قبلك. فقال لي : صدقت والله. وأظهر الندم ، والإقرار بقبحه.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا الذي ذكرنا مشاهد ، وهي آية باقية إلى اليوم ، وإلى انقضاء الدنيا ، وسائر آيات الأنبياء عليهمالسلام قد فنيت بفنائهم فلم يبق منها إلّا الخبر عنها فقط.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد ظنّ قوم أن عجز العرب ومن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن إنما هو لكون القرآن أعلى طبقات البلاغة.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا خطأ شديد ، ولو كان ذلك وقد أبى الله عزوجل أن يكون لما كان حينئذ معجزة ، لأن هذه صفة كل باسق في طبقته والشيء الذي هو كذلك ، وإن كان قد بسق في وقت ما ، فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه بل ما يفوقه. ولكن الإعجاز في ذلك إنما هو أنّ الله عزوجل حال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله ، ورفع عنهم القوة في ذلك جملة ، وهذا مثل لو قال قائل إنّي أمشي اليوم في هذا الطريق ، ثم لا يمكن أحد بعدي أن يمشي فيها ، وهو ليس بأقوى من سائر
__________________
(١) روى أبو داود في الأدب (باب ٨٦) وأحمد في المسند (٢ / ١٦٥ ، ١٨٧) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله عزوجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلّل بلسانه كما تخلّل الباقرة بلسانها». قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (٢ / ٧٣ ـ مادة خلل) : «هو الذي يتشدّق في الكلام ويفخّم به لسانه ويلفّه كما تلفّ البقرة الكلأ بلسانها لفّا».