الناس ، وأما لو كان العجز عن المشي لصعوبة الطريق وقوة هذا الماشي لما كانت آية ولا معجزة ، وقد بيّنا في غير هذا المكان أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس لأنّ فيه الأقسام التي في أوائل السور والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها وليس هذا من نوع بلاغة الناس المعهودة وقد روينا عن «أنيس» أخي أبي ذي الغفاري رضي الله عنهما : أنه سمع القرآن فقال : لقد وضعت هذا الكلام على ألسنة البلغاء ، وألسنة الشعراء ، فلم أجده يوافق ذلك ، أو كلاما هذا معناه. فصح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين ، وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله (١) ، ولنا في هذا رسالة مستقصاة كتبنا بها إلى «أبي عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد» (٢). وسنذكر منها هنا إن شاء الله تعالى ما فيه كفاية في كلامنا مع المعتزلة والأشعرية في خلق القرآن من ديواننا هذا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________________
(١) وجوه إعجاز القرآن عديدة. منها : لغته وأسلوبه ، وبيان ذلك أن القرآن جاء بهذا الأسلوب الرائع الخلاب الذي اشتمل على خصائص لم توجد في كلام على نحو ما وجدت في القرآن ، وهذا لا شك معجز ، خصوصا أن النبي صلىاللهعليهوسلم تحدى به فأعجز أساطين الفصحاء وأعيا مقاويل البلغاء ، وذلك في عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز في هذا الميدان. ومنها : طريقة تأليفه ، وبيان ذلك أن هذا القرآن لم ينزل جملة واحدة وإنما نزل مفرقا منجما على أكثر من عشرين عاما على حسب الوقائع والدواعي المتجددة ، وكان الرسول صلىاللهعليهوسلم كلما نزل عليه نجم من تلك النجوم قال : ضعوه في مكان كذا من سورة كذا ، وهو بشر لا يدري ما ستجيء به الأيام. ثم مضى عمر طويل والرسول على هذا العهد ، وإذا القرآن كله بعد ذلك يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف وينسجم ولا يؤخذ عليه شيء من التخاذل والتفاوت ، بل كان من ضروب إعجازه ما فيه من انسجام ووحدة وترابط. ومنها : علومه ومعارفه ، فقد اشتمل القرآن على علوم ومعارف في هداية الخلق بلغت من نبالة القصد ونصاعة الحجة وحسن الأثر وعموم النفع مبلغا يستحيل على محمد ـ وهو رجل أمي نشأ بين الأميين ـ أن يأتي بها من عند نفسه ، بل يستحيل على أهل الأرض جميعا من علماء وأدباء وفلاسفة ومتشرعين وأخلاقيين أن يأتوا من تلقاء أنفسهم بمثلها. ومنها : وفاؤه بحاجات البشر ، فالقرآن الكريم جاء بهدايات تامة وكاملة تفي بحاجات البشر في كل عصر ومصر وفاء لا تظفر به في أيّ تشريع ولا في أيّ دين آخر. إلى وجوه أخرى قد يطول الكلام فيها فلتراجع في مظانّها. انظر : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٣٥٤ وما بعدها).
(٢) هو أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن مروان ابن ذي الوزارتين أحمد بن عبد الملك الأشجعي الأندلسي أبو عامر ابن شهيد القرطبي المالكي. ولد سنة ٣٨٢ ه ، وتوفي سنة ٤٢٦ ه. من تصانيفه : الاستيعاب في فروع المالكية ، التوابع والزوابع ، حانوت العطار في الطب ، حل الدك وإيضاح الشك ، وغير ذلك (هدية العارفين : ١ / ٧٤).