سلف يقشعر منها جلود أهل العقول ، وبالله العظيم لو لا أن الله عزوجل قصّ علينا كفرهم بقولهم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [سورة المائدة : ٦٤] وبقولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [سورة آل عمران : ١٨١] لما نطقت ألسنتنا بحكاية هذه العظائم ، لكنا نحكيه منكرين له ، كما نتلوه فيما نصّه عزوجل تحذيرا من إفكهم.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ذكر في هذا المكان أن يعقوب صارع الله عزوجل تعالى الله عن ذلك ، وعن كل شبهة لخلقه ، فكيف عن لعب الصراع الذي لا يفعله إلّا أهل البطالة؟! وأما أهل العقول فلا يفعلونه لغير ضرورة. ثم لم يكتفوا بهذه الشوهة حتى قالوا : إن الله عزوجل عجز عن أن يصرع «يعقوب» بنص كلام توراتهم ، وحقق ذلك قولهم عن الله تعالى أنه قال له : «كنت قويا على الله تعالى فكيف على الناس؟!».
ولقد أخبرني بعض أهل البصر بالعبرانية أنه لذلك سمّاه إسرائيل. و «إيل» بلغتهم هو اسم الله تعالى بلا شك ولا خلاف. فمعناه «إسر الله» تذكيرا بذلك الضبط الذي كان بعد المصارعة ، إذ قال له : دعني. فقال له «يعقوب» : لا أدعك حتى تبارك عليّ. ولقد ضربت بهذا الفصل وجوه المتعرضين منهم للجدال في كل محفل ، فثبتوا على أن نصّ التوراة أن «يعقوب» صارع «ألوهيم» وقال : إن لفظ «ألوهيم» يعبر بها عن الملك ، فإنما صارع ملكا من الملائكة. فقلت لهم : سياق الكلام يبطل ما تقولون ضرورة أن فيه : «كنت قويا على الله فكيف على الناس؟!». وفيه أن «يعقوب» قال : «رأيت الله مواجهة وسلّمت نفسي» ولا يمكن البتة أن يعجب من سلامة نفسه إذ رأى الملك! ولا يبلع من مسّ الملك ـ كما نصّ يعقوب ـ أن يحرّم على بني إسرائيل أكل عروق الفخذ إلى الأبد من أجل ذلك. وفيه : أنه سمّى الموضع بذلك «فنيئيل» لأنه قابل فيه «إيل» وهو الله عزوجل بلا احتمال عندكم.
ثم لو كان ملكا ـ كما تدعون عن المناظرة ـ لكان أيضا من الخطأ تصارع نبي وملك لغير معنى. فهذه صفة المتحدين في العنصر لا صفة الملائكة والأنبياء.
فإن قيل : قد رويتم أنّ نبيكم صارع «ركانة بن عبد يزيد» (١). قلنا : نعم لأن «ركانة» كان من القوة بحيث لا يجد أحدا يقاومه في جزيرة العرب ولم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم موصوفا بالقوة الزائدة فدعاه إلى الإسلام فقال له : إن صرعتني آمنت بك ، ورأى أن هذا من المعجزات فأمره عليهالسلام بالتأهب لذلك ، ثم صرعه للوقت وأسلم
__________________
(١) رواه أبو داود في اللباس باب ٢١ ، والترمذي في اللباس باب ٤٢.