ولا أقل ولا أكثر فلا سبيل إلى الاستدلال عليها ، إذ لا وقت يمكن فيه الاستدلال على ذلك فصح أنها ضرورات أوقعها الله تعالى في النفس ، ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلّا من هذه المقدمات ، ولا يصح شيء إلّا بالردّ عليها ، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقّن ، وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط.
إلّا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ، وقد يكون من بعد ، فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس ، وأمكن للفهم ، وكلما بعدت المقدّمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفهم (١) القويّ الفهم والتمييز ، وليس ذلك مما يقدح في أن ما رجع إلى مقدّمة من المقدّمات التي ذكرنا حق ، كما أن تلك المقدمة حق ، لا فرق بينهما في أنهما حقّ ، وهذا مثل الأعداد فكلما قلّت الأعداد سهل جمعها ولم يقع فيها غلط ، حتى إذا كثرت الأعداد وكثر العمل في جمعها صعب ذلك حتى يقع فيها الغلط إلّا للحاسب الكافي المجيد ، وكلّ ما قرب من ذلك وبعد فهو كلّه حق ، ولا تفاضل في شيء من ذلك ، ولا تعارض مقدمة كما ذكرنا مقدمة أخرى منها ، ولا يعارض ما يرجع إلى مقدّمة أخرى منها رجوعا صحيحا ، وهذا كله يعلم بالضرورة. ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعرف صحّ ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبرا كاذبا طويلا فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر عالما بالغيب ، لأن هذا هو علم الغيب نفسه ، وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه ، فإذ ذلك كذلك بلا شك فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعدا مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا (٢) ، فلم يختلفا فيه ، فبالضرورة يعلم أنه حقّ متيقّن مقطوع به على غيبه ، وبهذا علمنا صحّة موت من مات وولادة من ولد ، وعزل من عزل ، وولاية من ولي ، ومرض من مرض ، وإفاقة من أفاق ، ونكبة من نكب ، والبلاد الغائبة عنّا ، والوقائع والملوك ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وديانتهم ، والعلماء وأقوالهم ، والفلاسفة وحكمهم ، لا شك عند أحد يوفّي عقله حقه في شيء مما نقل من ذلك مما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق.
__________________
(١) الفهم : ذو الفهم.
(٢) أي لم يشعر أحدهما بالآخر.