شيء إلا في زمان فإنك إذا ذكرت له أمرا ما قال : متى كان (١)؟ وإذا قلت له : لم تفعل كذا وكذا ، قال : متى كنت أفعله؟ وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلّا في زمان. ويعرف أن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها ، فتراه إذا رأى شيئا لا يعرفه قال : أيّ شيء هذا؟ فإذا شرح له سكت. ومنها : علمه بأنه لا يكون فعل إلّا من فاعل ، فإنه إذا رأى شيئا قال : من عمل هذا؟ ولا يقنع البتة بأنه انعمل بدون عامل. وإذا رأى بيد آخر شيئا قال : من أعطاك هذا؟ ومنها : معرفته بأن في الخبر صدقا أو كذبا ، فتراه يكذّب بعض ما يخبر به ، ويصدّق بعضه ، ويتوقف في بعضه. هذا كلّه مشاهد من جميع الناس في مبدأ نشأتهم.
قال «أبو محمد» فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل ، وهاهنا أيضا أنبياء غير ما ذكرنا إذا فتّشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره ، وليس يدري أحد كيف وقع له العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه.
ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحاح لا امتراء فيها ، وإنما يشكّ فيها بعد صحة علمه بها من دخلت عقله آفة (٢) وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضا آفة دخلت على تمييزه كالآفة الدّاخلة على من به هيجان الصفراء (٣) ، فيجد العسل مرّا ، ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها ، وكسائر الآفات الدّاخلة على الحواسّ.
قال «أبو محمد» : فهذه المقدمات الصحاح التي ذكرنا هي التي لا شك فيها ، ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلا إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه ، وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم عليهالسلام وصغارهم في أقطار الأرض ، إلّا من غالط حسّه ، وكابر عقله ، فيلحق بالمجانين ، لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلّا في زمان ، ولا بدّ ضرورة أن يعلم ذلك بأوّل العقل ، لأنه قد علم بضرورة العقل : أنه لا يكون شيء مما في العالم إلّا في وقت ، وليس بين أوّل أوقات تميز النفس في هذا العالم ، وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة ، لا دقيقة
__________________
(١) لا يصل الطفل إلى استيعاب مفهوم الزمان إلّا في سنّ متأخرة كما ثبت في علم النفس الحديث.
(٢) آفة : علّة.
(٣) الصفراء : سائل شديد المرارة يختزن في كيس المرارة لونه أصفر يضرب للحمرة. والصفراء أيضا : مزاج من أمزجة البدن (المعجم الوسيط : ص ٥١٦).