المصريون سبيلا إلى الشرب منه ، وصار الماء في جميع مصر دما ، ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم.
ثم ذكر أن «هارون» مدّ يده على مياه مصر وخرجت الضفادع منها ، وغطت أرض مصر ، ففعل السحرة برقاهم مثل ذلك ، وأقبلوا بالضفادع على أرض مصر. ثم ذكر أن «هارون» مدّ يده بالعصا وضرب بها غبار الأرض ، فتخلق منها بعوض في الآدميين والأنعام وعاد جميع الغبار بعوضا في جميع أرض مصر ، فلم يفعل السحرة مثل ذلك برقاهم ، وراموا اختراع البعوض فلم يقدروا عليه ، فقال السحرة لفرعون : هذا صنع الله.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذه الآبدة المصمئلّة (١) والصّيلم (٢) المطبقة ولو صحّ هذا لبطلت نبوة موسى عليهالسلام ، بل نبوة كلّ نبي.
ولو قدر السحرة على شيء من جنس ما يأتي به النبي لكان باب السحرة ، وباب مدّعي النبوة واحدا ، ولما انتفع موسى بازدراد عصاه لعصيهم ، ولا بعجزهم عن البعوض وقد قدروا على قلب العصيّ حيات ، وعلى إعادة الماء دما ، وعلى المجيء بالضفادع ، ولما كان لموسى عليهالسلام عليهم بنبوته أكثر من أنه أعلم بذلك العمل منهم فقط ، ولو كان كما قال هؤلاء الكذابون الملعونون لكان فرعون صادقا في قوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١ ، والشعراء : ٤٩] ولا منفعة لهم في قول السحرة في البعوض : «هذا صنع الله» ، لأنه يقال لبني إسرائيل : فعلى موجب قول السحرة لم يكن من صنع الله قلب العصا حية ، والماء دما ، والمجيء بالضفادع ، بل من غير صنع الله؟.
وهذه عظيمة تقشعر منها الجلود. أين هذا الإفك المفترى البارد من نور الحق الباهر؟! إذ يقول الله عزوجل : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) [سورة طه : ٦٩] وإذ يقول تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ
__________________
(١) الآبدة : الأمر العجيب يستغرب له ، والداهية يبقى ذكرها للأبد. والمصمئلّة : الشديدة (المعجم الوسيط : ص ٢ و ٥٢٢).
(٢) الصيلم : الداهية تستأصل ما تصيب (المرجع السابق : ص ٥٢١).