من عمل أحبارهم في دولتهم الثانية ، إذ ظهر دينهم ، وانتشرت بيوت عبادتهم ، فصارت لهم مجامع يتعلمون فيها دينهم ، وعلماء يعلمونهم في كلّ بلد ، بخلاف ما أوضحنا أنهم كانوا عليه أيام دولتهم الأولى ، من كونهم كلّهم كفارا مئين من السنين ، وكونهم لا مسجد لهم أصلا إلا بيت المقدس ، ولا مجمع بعلم لهم أصلا ، ولا عالما يعلمهم بوجه من الوجوه ، ولا جامع لشيء من كتبهم ـ والحمد لله رب العالمين.
ولو تقصينا ما في كتب أنبيائهم من المناقضات والكذب لكثر ذلك جدّا. وفيما أوردناه كفاية.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد اعترض بعضهم فيما كان يدّعى عليهم من تبديل التوراة ، وكتبهم المضافة إلى الأنبياء قبل أن نبين لهم أعيان ما فيها من الكذب البحث ، فقال : قد كان في مدة دولتهم أنبياء وبعد دولتهم ، ومن المحال أن يقر أولئك الأنبياء على تبديلها.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فجواب هذا القول أن يقال إن كان يهوديا : كذبت ، ما في شيء من كتبكم أنه رجع إلى البيت مع «زربائيل» بن «صيلئال» بن «صدقيا» الملك بنبي أصلا ، ولا كان معه في البيت نبي بإقرارهم أصلا ، وكان ذلك قبل أن يكتبها لهم «عزرا» الوراق بدهر ، وقبل رجوعهم إلى البيت مع «زربائيل» مات «دانيال» آخر أنبيائهم في أرض «بابل» ، وأما الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل بعد «سليمان» فكلهم كما بينا إما مقتول بأشنع القتل ، أو مخاف مطرود منفي لا يسمع منهم كلمة إلّا خفية ، حاشا مدة الملوك المؤمنين الخمسة في «بني يهوذا» أو «بني بنيامين» خاصة ، وذلك قليل تلاه ظهور الكفر ، وحرق التوراة ، وقتل الأنبياء. وهو كان خاتمة الأمر ، وعلى هذا الحال وافاهم انقراض دولتهم.
وأيضا : فليس كل نبي يبعث بتصحيح كتاب من قبله ، فبطل اعتراضهم بكون الأنبياء فيهم جملة.
وإن كان نصرانيا يقر بالمسيح و «زكريا» و «يحيى» عليهمالسلام ، قيل له : إن المسيح بلا شك كانت عنده التوراة المنزلة كما أنزلها الله تعالى ، وكان عنده الإنجيل المنزل. قال الله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة آل عمران : ٤٨ ، ٤٩]. إلّا أنه عرض في النقل عنه بعد رفعه عارض أشد وأفحش من العارض في النقل إلى «موسى» عليهالسلام ، فلا كافة في العالم متصلة إلى المسيح عليهالسلام أصلا ، والنقل إليه راجع إلى خمسة فقط وهم : «متى» ،