وفي خلال ذلك ذهب الإنجيل المنزل من عند الله تعالى إلّا فصولا يسيرة أبقاها الله تعالى حجة عليهم ، وخزيا لهم ، فكانوا كما ذكرنا إلى أن تنصر قسطنطين الملك ، فمن حينئذ ظهر النصارى وكشفوا دينهم ، واجتمعوا وأمنوا ، وكان سبب تنصره أن أمه هلاني كانت بنت نصراني فعشقها أبوه وتزوجها ، فولدت له قسطنطين ، فربته على النصرانية سرّا ، فلما مات أبوه وولي هو أظهر النصرانية بعد أعوام كثيرة من ولايته ، ومع ذلك فما قدر على إظهارها حتى رحل عن رومية مسيرة شهر إلى القسطنطينية وبناها ، ومع ذلك فإنما كان آريوسيّا هو وابنه بعده يقولان : إن المسيح عبد مخلوق نبي الله تعالى فقط وكل دين كان هكذا فمحال أن يصح فيه نقل متصل ، لكثرة الدواخل الواقعة فيما لا يوجد إلا سرا تحت السيف ، لا يقدر أهله على حمايته ، ولا على المنع من تبديله. ثم لما ظهر دينهم بتنصر قسطنطين كما ذكرنا فشا فيهم دخول المنّانية تقية ولم يكن فيهم غير منانية مدلسون عليهم ، فأمكنهم بهذا أن يدخلوا من الضلال ما أحبّوا ولا يمكن البتة أن ينقل أحد عن شمعون باطرة (١) ولا عن يوحنا ، ولا عن متّى ولا مارقش ولا لوقا ولا بولش آية ظاهرة ، ولا معجزة فاشية ، لما ذكرنا أنهم كانوا مختفين مستترين مظاهرين بدين اليهود من التزام السبت وغيره ، طول حياتهم. إلى أن ظفر بهم فقتلوا.
وكلّ ما يضيفه النصارى إلى هؤلاء من المعجزات فأكذوبات موضوعة ، لا يعجز عن ادعاء مثلها أحد ، كالذي تدّعي اليهود لأحبارهم ، ورءوس مثانيهم ، وكالذي تدعيه المنانية لماني سواء بسواء وكالذي تدّعيه الروافض لمن يعظمونه وكالذي تدّعيه طوائف من المسلمين لقوم صالحين كإبراهيم بن أدهم (٢) ، وأبي مسلم الخولاني (٣) ، وشيبان
__________________
(١) هو القديس بطرس الصياد أحد حواريي المسيح عليهالسلام ، وكانوا يسمونه بشمعون الصفا ، لصلابته في الدين كما يزعمون.
(٢) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر أبو إسحاق العجلي الخراساني البلخي نزيل الشام. من كبار الزّهاد. ولد في حدود المائة ، وتوفي سنة ١٦٢ ه. انظر ترجمته في حلبة الأولياء (٧ / ٣٦٧ ـ ٨ / ٥٨) والوافي بالوفيات (٥ / ٣١٨ ، ٣١٩) وفوات الوفيات (١ / ١٣ ، ١٤) وسير أعلام النبلاء (٧ / ٣٨٧ ـ ٣٩٦). والعبر للذهبي (١ / ٢٣٨) وشذرات الذهب (١ / ٢٥٥ ، ٢٥٦) وطبقات الأولياء (ص ٥ ـ ١٥) ومشاهير علماء الأمصار (ص ١٨٣) والمعرفة والتاريخ (٢ / ٤٥٥) والتاريخ الكبير للبخاري (١ / ٢٧٣) والجرح والتعديل (٢ / ٨٧) وتهذيب التهذيب (١ / ١٠٢ ، ١٠٣).
(٣) هو أبو مسلم الخولاني الداراني. اسمه عبد الله بن ثوب ، وقيل : عبد الله بن عبد الله ، وقيل : عبد الله بن ثواب ، وقيل : ابن عبيد ، وقيل : اسمه يعقوب بن عوف. قدم من اليمن ، وأسلم في