ولذّات مترادفة أبدا وقتا بعد وقت ، إلّا أن الأول والآخر جاريان حادثان في كل موجود من ذلك ، وإذا ثبت الأوّل فغير ممتنع تمادي الزمان حينا بعد حين أبدا بلا نهاية ، وهذا مثل العدد فإنه لو لم يكن له أول لم يقدر أحد على عدّ أي شيء أبدا ، فالعدد له أول ضرورة ، يعرف ذلك بالحس والمشاهدة ، وهو قولنا واحد فإنّ هذا مبدأ العدد الذي لا عدد قبله ، ثم الأعداد يمكن فيها الزيادة أبد الأبد لا إلى غاية ، لكن كلما خرج منه جزء إلى حدّ الوجود وجد ، فالفعل فله نهاية ، وهكذا أبدا سرمدا. وبالله تعالى التوفيق.
فانقطع الشنيفي ، ولم يكن عنده إلّا الشغب.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد قال بعض أهل الإلحاد في هذه البراهين التي أوجبنا بها استحالة وجود موجودات لا أوائل لها : أتقولون إن الله تعالى يوفي أهل الجنة ما وعدهم من النعيم الذي لا آخر له ولا نهاية أم لا يوفيهم ما وعدهم من ذلك؟
فإن قلتم : إنه تعال يوفيهم إياه. دخل عليكم كل ما أدخلتموه علينا في هذه البراهين ، ولا فرق.
وإن قلتم : إنه تعالى لا يوفيهم ذلك ألزمتموه خلف الوعد والكذب ، وهو كفر عندكم.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذه شغيبة قد طالما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق. وهي منفسخة من وجهين :
أحدهما : أن تعلق المرء بما يقول خصمه ضعف ، وإنما يلزم المرء أن يخلّص قوله مجردا ، ولا أسوة له في تناقض خصمه ، بل لعل خصمه لا يقول ذلك.
الثاني : أن المسئول بها إن كان جهميّا (١) سقط عنه هذا السؤال المذكور.
__________________
(١) الجهمية : هم أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وأنكر الاستطاعات كلها وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان ، وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأن الكفر هو الجهل به فقط ، وقال : لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال : زالت الشمس ودارت الرحى ، من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به. وزعم أيضا أن علم الله تعالى حادث وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حيّ أو عالم أو مريد ، وقال : لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء وموجود وحيّ وعالم ومريد ونحو ذلك. ووصفه بأنه قادر وموجد وفاعل وخالق ومحيي ومميت ، لأن هذا الأوصاف مختصة به وحده. وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدرية ولم يسم الله تعالى متكلما به. انظر الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٥٨ ، ١٥٩).