وأمّا نحن فعلينا بحول الله تعالى بيان فساد هذا الاعتراض وتمويهه ، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ إنّ من شغب أهل السفسطة إدخال كلمة لا يؤبه لها يجعلونها مقدمة وهي كذب ، فيموّهون بها على الجهّال مما يبنون عليها.
وهذا الاعتراض من هذا الباب.
وذلك أنهم أرادوا إلزامنا بأن الله عزوجل وعد أهل الجنة أن يوفيهم نعيما لا نهاية له ، وهذا خطأ وكذب ، وما وعدهم الله عزوجل قط بأن يوفيهم ذلك النعيم ، ولو وعدهم بذلك لكان ذلك النعيم إذا استوفي بطل وفني وانقضى ، وإنما وعدهم تعالى بنعيم لا نهاية له. وكل ما ظهر ووجد من ذلك النعيم فهو محصور ذو نهاية ، وما لم يخرج إلى حدّ الفعل فهو عدم بعد ، ولا يقع عليه عدد ولا صفة ، وهكذا أبدا. فقد ظهر أن لفظة «يوفيهم» هي الشغيبة المفسدة التي موّهوا بها ، فإذا أسقطها المعترض من كلامه سقط اعتراضه جملة وصحت القضية. وبالله التوفيق.
فإن قال قائل : فإن الله عزوجل يقول : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [سورة هود : ١٠٩]
قلنا : صدق الله تعالى وهذا لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أن يكون أراد بذلك نصيبهم من الجزاء ، أو يكون أراد نصيبهم من مساحة الجنة.
فإن كان عنى ـ عزوجل ـ بذلك نصيبهم من الجزاء والنعيم فهو صحيح ، لأن كل ما خرج من ذلك إلى حد الوجود فهو مستوفى بيقين وهكذا أبدا. وإن كان تعالى عنى بذلك نصيب كل واحد من الجنة والنار ، فهذا صحيح ، لأن كل مكان منها متناه من جهة المساحة ، وإنما نفينا التوفية التي توجب الانقضاء بلا زيادة فيها. وقد قال ـ عزوجل ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النساء : ١٧٣]. وقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر : ١٠].
وهاتان الآيتان تبينان أن الأجر المستوفى هو كل ما يعطونه من مساحة الجنة ، وكل ما خرج إلى الوجود من النعيم ، ثم لا يزال تعالى يزيدهم من فضله كما قال تعالى : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فهذا لا يستوفى أبدا لأنه لا نهاية له ، ولا كل ، ولو استوفي لم يمكن أن تكون فيه زيادة ، إذ بالضرورة يعلم أن ما استوفي فلا زيادة فيه ، وما تمكن الزيادة فيه فلم يستوف بعد.