العقل ، وضرورته ، وأوله ، أن ينظر في تلك الدعوى ، فإن كانت ترجع إلى الحواس المشاهدة ، فهي دعوى فاسدة كاذبة ، لأن العقول توجب أشياء لا تشكّل في الحواس ، كالألوان التي يتوهمها الأعمى ، ولا يتشكلها بحاسة وهو موقن بها بضرورة عقله ، لصحة الخبر وتواتره عليه بوجودها. وكالصوت الذي لا يتوهمه البتة ، ولا يتشكله من ولد وهو أصم ، وهو موقن بعقله بصحة الأصوات لتواتر الخبر عليه بصحتها. وإن كانت تلك الدعوى ترجع إلى مجرّد العقل ، دون توسط الحواس ـ فهي دعوى صادقة ، وهذه الدعاوى التي ذكرنا عن الأشعرية ، والمجسمة ، والمعتزلة ، والدّهرية ـ فإنما غلطوا فيها ، لأنهم نسبوا إلى أول العقل ما أدركوه بحواسّهم.
وقد قلنا : إنّ العقل يوجب ولا بد معرفة أشياء لا تدرك بالحواس ، ولا سيما دعوى الدّهرية ، فإنها تعارض بمثلها من أنه بضرورة العقل وأوله علمنا أنه لا يمكن وجود جسم وعرض في زمان لا أوّل له ، وهذا هو الحق ، لا دعواهم التي عوّلوا فيها على ما شاهدوه بحواسهم فقط.
وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فيقال لهم : إذا سميتموه حيّا لنفي الموت والمواتية عنه تعالى ، وقادرا لنفي العجز ، وعالما لنفي الجهل ـ فيلزمكم ولا بد أن تسموه حسّاسا لنفي الخدر عنه ، وشمّاما لنفي الخشم عنه ، ومتحركا لنفي السكون والجمادية عنه ، وعاقلا لنفي ضد العقل عنه ، وشجاعا لنفي الجبن عنه.
فإن امتنعوا من ذلك كانوا قد ناقضوا في استدلالهم في تسميتهم إيّاه حيّا ، عالما ، قادرا ، جوادا.
فإن قالوا : إنه لا يجوز أن يسمّى بشيء مما ذكرنا لأنه لم يأت به نصّ.
قيل لهم : وكذلك لم يأت نص بأنّ له تعالى حياة ، ولا أنه تسمّى حيّا ، عالما ، قادرا لنفي أضداد هذه الصفات عنه ، لكن لما جاء النص بأنه تعالى تسمّى بالحيّ العالم القدير سميناه بذلك ـ ولو لا النص ما جاز لأحد أن يسمي الله تعالى بشيء من ذلك ، لأنه كان يكون مشبّها بخلقه ، لا سيما ولفظة الحيّ تقع في اللغة على العالم المميز بالحقائق.
قال تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة يس : ٧٠].
فأراد بالحي هاهنا : العالم المميز بالإيمان ، المقرّ به.
وأيضا : فإنهم يدّعون أنهم ينكرون التشبيه ثم يرتكبونه أتم ركوب ، فيقولون : لما