إمّا أن تكونوا علمتموه بسمع وردكم وخبر.
وإمّا أن تكونوا علمتموه بضرورة العقل.
فإن قلتم : إنكم علمتموه بطريق السمع. قيل لكم : هل معنى السمع شيء غير أن مبتدع الخلق ومرتبة سمّى هذا الشيء شرّا وأمر باجتنابه ، وسمّى هذا الشيء الآخر خيرا وأمر بإثباته؟
ـ فلا بدّ من نعم ، إذ هو هذا معنى اللازم عند كل من قال بالسمع.
فيقال لهم : فإنما صار الشرّ شرّا لنهي الواحد الأول عنه ، وإنما صار الخير خيرا لأمره به.
فلا بدّ من نعم. فإذا كان هذا ، فقد ثبت أن من لا مبدع ولا مدبر له ولا آمر فوقه لا يكون شيء من فعله شرّا ، إذ السبب في كون الشرّ شرّا هو الإخبار بأنه شر ، ولا مخبر يلزم طاعته إلا الله تعالى.
فإن قالوا : فكيف يفعل هو شيئا قد أخبر أنه شر؟
قيل لهم : ليس يفعل الجسم فيما يشاهد غير الحركة والسكون ، والحركة كلها جنس واحد في أنها نقلة مكانية ، وكذلك السكون جنس واحد كله ، فإنما أمرنا تعالى بفعل بعضها ، ونهانا عن فعل بعضها ، ولم يفعل هو تعالى الحركة قط على أنه متحرك بها ، ولا السكون على أنه ساكن به ، وإنما فعلهما على سبيل الإبداع. فتحرّكنا نحن بحركة نهينا عنها ، وسكوننا بسكون نهينا عنه هو الشر لا شر غيره أصلا. وكذلك اعتقاد النفس ما نهيت عنه ـ وهذا كله غير موصوف به الباري تعالى.
وإن قالوا : علمنا ذلك ببداهة العقل.
قيل لهم وبالله التوفيق :
أليس العقل قوة من قوى النفس وداخلا تحت الكيفية على الحقيقة أو تحت الجوهر على قول من لا عقل؟ فلا بد من نعم ، إنما يؤثر العقل ما هو من شكله في باب الكيفيات فيميز بين خطئها وصوابها ، ويعرف أحوالها ومراتبها.
وأمّا فيما هو فوقه ، وفيما لم يزل والعقل معدوم ، وفي مخترع العقل ومرتبه كما هو ، فلا تأثير للعقل فيه ، إذ لو أثّر فيه لكان محدثا ، لما قدّمنا من أنّ الأثر من باب المضاف ، فهو يقتضي مؤثرا فكان يكون الباري تعالى منفعلا للعقل ، وكان يكون العقل فاعلا فيه تعالى ، وحاكما عليه جلّ الله عن ذلك.