فإن قالوا : ما تقولون فيما في كتابكم : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [سورة الشورى : ٥١]. وأنه تعالى كلم موسى من جانب الطور من الشجرة من شاطئ الوادي؟
قلنا : التكليم فعل الله تعالى مخلوق ، والحجاب إنما هو للتكليم ، والتكليم هو الذي حدث في الشجرة وشاطئ الوادي وجانب الطور ، وكل ذلك مخلوق محدث وكذلك تحوّل جبريل عليهالسلام في صورة دحية إنما هو أن الله تعالى جعل للملائكة والجن قوى يتحولون بها فيما شاءوا من الصور ، وكلهم مخلوق تتعاقب عليهم الأعراض بخلاف الله تعالى في ذلك.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وما يعترض به على النصارى ـ وإن كان ليس برهانا ضروريا لكنه يقرب من فهم كل ذي فهم ، وينقض عليهم به جميع شرائعهم نقضا ضروريا على جميعهم لكنه برهان ضروري على كل من تقلد منهم الشرائع التي يعمل بها الملكيون والنساطرة واليعاقبة والمارونية ـ قاطع لهم ، وهي مسألة جرت لنا مع بعضهم ، وذلك أنهم لا يخلون من أحد وجهين ، إمّا أن يكونوا يقولون ببطلان النبوة بعد عيسى عليهالسلام ، وإمّا أن يقولوا بإمكانها بعده عليهالسلام.
فإن قالوا بإمكان النبوة بعده عليهالسلام لزمهم الإقرار بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم إذ ثبت نقل أعلامه بالكواف التي بمثلها نقلت أعلام عيسى وغيره عليهم الصلاة والسلام ، وإن قالوا ببطلان النبوة بعد عيسى عليهالسلام لزمهم ترك جميع شرائعهم من صلاتهم ، وتعظيمهم الأحد ، وصيامهم وامتناعهم من اللحم ومناكحهم ، وأعيادهم ، واستباحتهم الخنزير والميتة ، والدّم ، وترك الختان ، وتحريم النكاح على أصل المراتب (١) في دينهم ، إذ كل ما ذكرنا ليس منه في أناجيلهم الأربعة شيء البتة ، بل أناجيلهم مبطلة لكل ما هم عليه اليوم ، إذ فيها أنه عليهالسلام قال : «لم آت لأغير شيئا من شرائع التوراة». وأنه كان يلتزم هو وأصحابه بعده السبت ، وأعياد اليهود من الفصح وغيره ، بخلاف كل ما هم عليه اليوم ، فإذا منعوا من وجود النبوة بعده وكانت الشرائع لا تؤخذ إلّا عن الأنبياء عليهمالسلام ، وإلّا فإنّ شارعها عن غير الأنبياء عليهمالسلام حاكم على الله تعالى وهذا أعظم ما يكون من الشرك والكذب والسخف ، فشرائعهم التي هي دينهم
__________________
(١) كذا في الأصل : «على أصل المراتب» والصواب : «أهل المراتب» أي أهل الرتب الذين يتبتّلون ويحرمون النكاح على أنفسهم.