حدثوا ، وأنهم لم يكونوا قبل ذلك ، لكن حدثوا الآن في حال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز وطبخ وغير ذلك.
ولو كان هذا لنقلوه إلى أولادهم نقلا يقتضي لهم العلم الضروري بذلك ولا بد ، كما يقتضي العلم الضروري كل نقل جاء بأقل من هذا المجيء مما كان قبلنا من الملوك والدول والوقائع ، ولبلغ الأمر إلينا كذلك ، ولعلمه جميع الناس علما ضروريا ، لأن شيئا ينقله جميع أهل الأرض عن مشاهدتهم له لا يمكن التشكك فيه أبدا ، كما نقل طلوع الشمس وغروبها والموت والولادة وغير ذلك.
ونحن نجد الأمر بخلاف هذا لأنا نجد جميع أهل الأرض قاطبة لا يعرفون هذا ، بل لا يدريه أحد منهم ، وإنما قلته أنت ومن وافقته أو من وافقك برأي وظن ، لا بخبر ونقل أصلا.
هذا ما لا تخالفنا فيه أنت ولا أحد من الناس ، فمن المحال الممتنع أن يكون خبر نقله جميع سكان العالم أولهم عن آخرهم إلى كل من حدث بعدهم عما شاهدوه يخفى حتى لا يعرفه أحد من سكان الأرض ، هذا أمر يعرف كذبه بأول العقل وبديهته.
فقال : والذي تحكونه أنتم أيضا قد وجدنا جماعات ينكرونه فينبغي أن يبطل بما عارضتنا به. فقلت : بين النقلين فرق لا خفاء فيه ، لأن نقلنا نحن لما قلناه إنما يرجع إلى خبر رجل واحد ، وامرأة واحدة فقط ، وهما أول من أحدثهم الله تعالى من النوع الإنساني ، وما كان هكذا فإنه لا يوجب العلم الضروري ، إذ التواطؤ ممكن في ذلك ، ولو لا أن الأنبياء عليهمالسلام الذين جاءوا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذلك ما صحّ قولنا من جهة النقل وحده ، بل كان ممكنا أن يكون الله تعالى ابتدأ خلق جماعة تناسل الخلق منهم ، لكن لما أخبر من صممت المعجزة قوله بأن الله تعالى لم يبتدئ من النوع الإنساني إلا رجلا واحدا وامرأة واحدة وجب تصديق قولهم.
وبرهان آخر : وهو أنكم قد أثبتم ضرورة صحة قولنا من أن الله ابتدأ النوع الإنساني بأن خلق ذكرا وأنثى ، ثم ادعيتم زيادة أن الله تعالى خلق سواهما جماعات ولم تأتوا على ذلك ببرهان أصلا ولا بدليل إقناعي فضلا عن برهاني. وقد صحت البراهين التي قدمنا قبل ، أنه لا بد من مبدأ (١) ضرورة ، فوجب ولا بدّ حدوث ذكر وأنثى ، وكان من ادّعى حدوث أكثر من ذلك مدّعيا لما لا دليل له عليه أصلا ، وما
__________________
(١) أي أوّل لكل شيء.