وإنما قولنا الذي بيناه في غير موضع أنه تعالى لا يفعل شيئا لعلّة (١) ، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ، وأن كل ما فعله فهو عدل وحكمة أي شيء كان.
فيقال وبالله تعالى التوفيق لمن احتج بالحجة الأولى من أن الحكمة تضاد بعثة الرسل ، وأن الحكيم لا يبعث الرسل إلى من يدري أنه يعصيه إنكم اضطركم هذا الأصل الفاسد الحاكم بذلك إلى موافقة المانية على أصولها في أن الحكيم لا يخلق من يعصيه ، ولا من يكفر به ويقتل أولياءه. وهم يقولون : إن الله تعالى خلق الخلق ليدلّهم به على نفسه.
ويقال لهم : قد علمنا وعلمتم أنّ في الناس كثيرا يجحدون الربوبية والوحدانية فقولوا : إنه ليس حكيما من خلق دلائل لمن يدري أنه لا يستدل بها.
فإن قالوا : إنه قد استدلّ بها كثير ، قيل لهم : وقد صدّق الرسل أيضا كثير.
فإن قالوا : إنه خلق الخلق كما شاء. قيل لهم : وكذلك بعث الرسل أيضا كما شاء ، فبعثته تعالى الرسل هي بعض دلائله التي خلقها تعالى ليدل بها على المعرفة به تعالى ، وعلى توحيده.
ويقال لمن احتج بالحجة الثانية من أن الأولى به أنه كان يضطر العقول إلى الإيمان به : إن هذا قول مرذول مردود عليكم في قولكم : إن الله عزوجل خلق الخلق ليدلّهم بهم على نفسه ووحدانيته.
فيلزمكم على ذلك الأصل الفاسد أنه كان الأولى إذ خلقهم أن لا يدعهم والاستدلال ، وقد علم أن فيهم من لا يستدل ، وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال. فكان الأولى في الحكمة أن يضطر عقولهم إلى الإيمان به ، ولا يكلفهم مئونة الاستدلال ، وأن يلطف بهم ألطافا يختار جميعهم معها الإيمان كما فعل بالملائكة.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وملاك هذا كله ما قد قلناه في غير موضع من أن الخلق لما كانوا لا يقع منهم فعل إلّا لعلّة ، ووجب بالبراهين الضرورية أن البارئ تعالى بخلاف جميع خلقه من جميع الجهات ، وجب أن يكون فعله لا لعلة بخلاف أفعال جميع الخلق ، وأنه لا يقال في شيء من أفعاله تعالى أنه فعل كذا لعلّة ، ولا إذ جاء الإنسان بالنطق (٢) وحرمه سائر الحيوان ، وخلق بعض الحيوان صائدا وبعضه
__________________
(١) لأنه لا يجب على الله تعالى شيء.
(٢) النّطق : الفهم وإدراك الكليات. والإنسان حيوان ناطق : أي مفكّر. انظر المعجم الوسيط (ص ٩٣١).