مصيدا ، وباين بين جميع مفعولاته ، كما شاء ، فليس لأحد أن يقول لم خلق الإنسان ناطقا وحرم الحمار النطق ، وجعل الحجر جامدا لا حياة فيه ولا نطق ، وهذا أصل قد وافقتنا البراهمة عليه ، وسائر من خالفنا من تفريع هذا المعنى ممن يقول بالتوحيد. وهكذا إذا بعث الله تعالى الرسل ليس لأحد أن يقول : لم بعثهم؟ أو لم بعث هذا الرجل ولم يبعث هذا الآخر؟ ولا لم بعثهم في هذا الزمان دون غيره من الأزمان؟ ولا لم بعثهم في هذا المكان دون غيره من الأمكنة؟ كما لا يقال لما حبا هذا المكان بالخصب دون غيره ، ولا لم حبا هذا الإنسان بالجمال دون غيره ، ولا لم حباه بالسّعد في الدنيا دون غيره؟ وهكذا كل ما في العالم إذا نظر فيه تعالى الذي لا يسأل عن شيء. قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء : ٢٣].
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وإذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تعالى وتأييده ، فلنقل الآن بعون الله تعالى وتأييده في إثبات النبوة إذ (١) وجدت قولا بيّنا وبالله تعالى التوفيق : فنقول وبالله تعالى نستعين : قد قدّمنا فيما خلا إثبات حدوث الأشياء وأن لها محدثا لم يزل واحدا لا مبدأ له ، ولا كان معه غيره ، ولا مدبر سواه ، ولا خالق غيره. فإذ قد ثبت هذا كله وصح أنه تعالى أخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ، ولا معاناة ، ولا طبيعة ، ولا استعانة ، ولا مثال سلف ، ولا علّة موجبة ، ولا حكم سابق قبل الخلق يكون ذلك الحكم لغيره تعالى ، فقد ثبت أنه لم يفعل إذ لم يشأ ، وفعل إذ شاء ، كما شاء ، وينقص ما شاء ، فكل منطوق به مما يتشكك في النفس أو لا يتشكك فهو داخل له تعالى في باب الإمكان على ما بيّنا في غير هذا المكان ، إلّا أننا نذكر منه هاهنا طرفا إن شاء الله عزوجل فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إن الممكن ليس واقعا في العالم وقوعا واحدا ، ألا ترى أن نبات اللحية للرّجال ما بين الثماني عشرة إلى عشرين سنة ممكن؟ وهو في حدود الاثني عشرة سنة إلى العامين ممتنع ، وأن فك الإشكالات العويصة ، واستخراج المعاني الغامضة ، وقول الشعر البديع ، وصناعة البلاغة الرائقة ممكن لذي الذهن اللطيف والذكاء النافذ ، وغير ممكن من ذي البلادة الشديدة والغباوة المفرطة؟
فعلى هذا ما كان ممتنعا بيننا ـ إذ ليس في بنيتنا ولا في طبيعتنا ، ولا من عادتنا ـ فهو غير ممتنع على الذي لا بنية له ، ولا طبيعة له ، ولا عادة عنده ، ولا رتبة
__________________
(١) كانت في الأصل : «إذا» والصواب ما أثبتناه.