لازمة لفعله ، فإذ قد صح هذا ، فقد صح أنه لا نهاية لما يقوى عليه تعالى ، فصح أن النبوة في الإمكان.
وهي بعثة قوم قد خصهم الله تعالى بالحكمة والفضيلة والعصمة لا لعلة إلّا أنه شاء ذلك ، فعلّمهم الله تعالى العلم بدون تعلم ، ولا تنقل في مراتبه ، ولا طلب له ، ومن هذا الباب ما يراه أحدنا في الرؤيا فيخرج صحيحا (١) ، وما هو من باب تقدّم المعرفة ، فإذ قد أثبتنا أن النبوّة قبل مجيء الأنبياء عليهمالسلام واقعة في حدّ الإمكان ، فلنقل الآن بحول الله تعالى وقوته على وجوبها إذا وقعت ولا بدّ. فنقول :
إذ قد صحّ أن الله تعالى ابتدأ العالم ولم يكن موجودا حتى خلقه الله تعالى فبيقين ندري أن العلوم والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه فيما بيننا دون تعليم كالطب ، ومعرفة الطبائع ، والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير التي لا سبيل إلى تجريبها كلها أبدا ، وكيف يجرّب كل عقار في كل علة؟ ومتى يتهيأ هذا؟ ولا سبيل له إلا في عشرة آلاف من السنين؟ ومشاهدة كل مريض في العالم ، وهذا يقطع دونه قواطع الموت والشغل بما لا بدّ منه من أمر المعاش وذهاب الدول ، وسائر العوائق. وكعلم النجوم ، ومعرفة دورانها وقطعها وعودها إلى أفلاكها مما لا يتم إلّا في عشرة آلاف من السنين ، ولا بدّ من أن يقطع دون ضبط ذلك العوائق التي قلنا. وكاللغة التي لا يصح تربية ولا عيش ولا تصرف إلا بها ، ولا سبيل إلى الاتفاق عليها إلا بلغة أخرى ولا بد ، فصحّ أنه لا بدّ من مبدأ ما للغة. وكالحرث والحصاد ، والدراس ، والطحن وآلاته ، والعجن ، والطبخ والحلب وحراسة المواشي ، واتخاذ الأنسال منها ، والغرس واستخراج الأدهان ، ودق الكتان والقنب ، والقطن وغزله ، وحياكته ، وقطعه ، وخياطته ، ولبسه وآلات كل ذلك ، وآلات الحرث والأرحاء (٢) ، والسفن ، وتدبيرها في القطع بها للبحار ، والدواليب ، وحفر الآبار ، وتربية النحل ودود الخز ، واستخراج المعادن ، وعمل الأبنية منها ، ومن الخشب والفخار.
وكل هذا لا سبيل إلى الاهتداء إليه دون تعليم. فوجب بالضرورة ولا بدّ أنه لا بدّ من إنسان واحد فأكثر علّمهم الله تعالى ابتداء كلّ هذا دون معلم ، لكن بوحي
__________________
(١) قوله : «فيخرج صحيحا» أي يتحقّق.
(٢) الأرحاء : جميع رحى ، وهي الأداة التي يطحن بها ، وهي حجران مستديران يوضع أحدهما على الآخر ويدار الأعلى على قطب ، ويجمع أيضا على : أرح ورحيّ وأرحية (المعجم الوسيط : ص ٣٣٥).