ولما عاد بنو إسرائيل إلى فلسطين أمدهم الله بالمال والبنين ، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا ، ولكن ما ان استردوا قوتهم حتى عادوا إلى أسوأ مما كانوا عليه من الإفساد والانحراف عن الدين ، وقتلوا زكريا ويحيى ، وهمّوا بقتل السيد المسيح (ع).
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها). وفي هذا المعنى قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ ٤٦ فصلت. وقوله: (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ـ ٢٨٦ البقرة.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ). بعد أن مضى الإفساد الأول من بني إسرائيل ، ومضت محنتهم الأولى جاء الإفساد الثاني ، وحل محله وقت المحنة الثانية ، فبعث الله على بني إسرائيل قوما (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) الخطاب لبني إسرائيل ، وضمير يسوءوا راجع إلى المبعوثين لكي ينزلوا المحنة بالاسرائيليين .. ومساءة الوجوه كناية عن محنتهم وإذلالهم ، لأن الأعراض النفسية يظهر أثرها في الوجه فرحا كانت أو حزنا ، ومثله قوله تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ ٢٧ الملك.
(وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً). المراد بالمسجد هنا مدينة القدس ، لأن فيها هيكل سليمان ، وسمي مسجدا لأنه محل للسجود ، والمراد بالتتبير الإهلاك ، وما علوا أي ما أخذه الفاتحون وتغلبوا عليه ، والمعنى ان بني إسرائيل حين أفسدوا في المرة الثانية سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، ويجعل مصيرهم في هذه المرة تماما كمصيرهم في المرة الأولى من القتل والأسر والتشريد والتخريب والتدمير .. ونخلص من هذا ان الافسادتين والمحنتين قد مضتا جميعا قبل الإسلام.
وفي مجمع البيان ان الذي أغار على بني إسرائيل أولا ، وخرب بيت المقدس هو بخت نصر ، والذي أغار عليهم ثانية هو ملك الروم ، فخرب بيت المقدس وسبى أهله ، ويتفق هذا مع ما نقله المراغي عن تواريخ اليهود ، وقال : كان بين الاغارتين نحو من خمسمائة سنة.
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) على شريطة أن تتوبوا وترحموا ، لأن من لا يرحم لا يرحم ، كما جاء في الحديث الشريف (وان عدتم) إلى الإفساد والتعالي والاستكبار على أمر الله (عدنا) إلى عقابكم وإذلالكم ، وقد عادوا وأفسدوا ،