في سبيلها ، فان النبوة في حقيقتها مجرد خبر ونبأ عن الله ينقله من يستحيل في حقه الكذب والخطأ ، وما هي بقوة تنفيذية تقول للشيء كن فيكون ، ان النبي بشر لا يملك لنفسه نفعا ، ولا يدفع عنها ضرا ، ويستعمل لتنفيذ مقاصده نفس الوسائل التي يستعملها المؤمن والجاحد ، ولا يمتاز إلا بهذا النبأ عن الله ، وانه أخذ من الانسانية أكرم ما فيها ، واستصفى أجلّ صفاتها ، ولكن الصفات الجلى لا تجعل صاحبها في المكان الذي يستغني معه عن الأسباب العادية والسنن الطبيعية .. كلا ، ان الأنبياء وغير الأنبياء سيّان في الحاجة والافتقار الى الأخذ بالعلل والأسباب.
فالنبي يحتاج الى التطبيب إذا أصابته علة تماما كما يحتاج اليه من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وأيضا يحتاج الى القوة الرادعة كما يحتاج اليها أي انسان .. فكل الأنبياء أوذوا ، وكثير منهم قتلوا .. وبهذا يتبين الغلو في قول من قال : ان محمدا (ص) هو الحقيقة التي خلق الله منها الوجود ، والروح التي سرت في جميع الكائنات علويها وسفليها : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ـ ١٨٧ الأعراف.
هذه هي حقيقة النبوة : إنذار وتبشير ، ومتى وجد البشير النذير ومعه المؤازر المناصر كان الإرشاد أبلغ في الحجة ، وأدعى لبلوغ الغاية ، ومن أجل هذا طلب موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه.
وبهذه المناسبة نذكر ما قاله «و. ل. ديورانت» عن محمد (ص) في موسوعته التاريخية «قصة الحضارة في العالم» : «كانت المساكن التي أقام فيها محمد كلها من اللبن لا يزيد اتساعها عن ١٢ قدما ، ولا يزيد ارتفاعها عن ٨ أقدام ، وسقفها من جريد النخل ، وأبوابها من شعر الماعز ، أو وبر الجمل ، أما الفراش فلم يكن أكثر من حشية تفرش على الأرض ، ووسادة من ليف ، وكان يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، وينفخ النار ، ويكنس أرض الدار ، ويحلب العنزة ، ويبتاع طعامه من السوق ، ويأكل بيده ويلعق أصابعه ، وكان طعامه الأساسي التمر وخبز الشعير ، وكان اللبن وعسل النحل هما كل ما يستمتع به من الترف في بعض الأحيان».