حيث قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ).
عرض ، جلت عظمته ، في هذه الآية النشأة الأولى للإنسان ، وكيف انتقل به سبحانه من طور الى طور ، والهدف الأول من ذلك أن ندرك الدلائل على وجود الخالق وعظمته ، أن نفكر وننظر الى هذا المخلوق العجيب في صورته وهيئته ، وفي عقله وإدراكه ، هذا الإنسان صاحب التاريخ والحضارات ، هذا الكائن الذي يملك من القوى والطاقات ما لا يملكه مخلوق ، والذي خاطبه العارفون بهذا التعظيم : «وفيك انطوى العالم الأكبر» هذا العجيب من أين أتى؟ ومن أي شيء خلق؟ وتجيبنا الآية بأنه خلق من طين ، من تراب وماء ، من الأصل الذي خلقت منه الحشرات والنباتات .. وهنا يكمن الدليل والبرهان ، فان الشيء الواحد لا ينشئ شيئين متناقضين : الإدراك واللاإدراك ، والعمى والبصر .. اذن هناك سر ، ولا تفسير لهذا السر الا بقوة قادرة عالمة وراء هذا الشيء الواحد ، وهذه القوة هي التي فرّقت وميّزت بين الشيئين المتناقضين اللذين خلقا من أصل واحد (١) ، وبعد هذه الاشارة الى الهدف من الآيات الواردة في خلق الإنسان نبين المعنى المراد من الآيات التي نحن بصددها.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ). المراد بالإنسان هنا ابن آدم ، لا آدم بالذات لأن سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) يحتم ذلك .. وآدم وأبناؤه كلهم من طين ، من تراب وماء ، والفرق ان آدم خلق منهما مباشرة ، وأبناؤه بواسطة الأغذية التي تتوالد من الأرض والماء.
(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) في أصلاب الآباء ، ومنها الى أرحام الأمهات (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) تقدم في الآية ٥ من سورة الحج. (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً). قسّم المضغة الى عظام وعروق ولحم ، ثم خلق من المجموع أعضاء عديدة ومتنوعة ، والتفصيل في علم التشريح (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) إنسانا سويا مباينا في شكله وحقيقته لخلقه الأول (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). ولا شيء أدل على هذه الحقيقة من خلق الكون بنظامه الثابت ، ومن
__________________
(١). انظر ما قلناه بعنوان «الإنسان بذاته برهان» في ج ١ ص ٧٤.