والنظر .. بعد أن ذكر سبحانه الذين لا تلهيهم تجارة عن ذكر الله ، وانه يجزيهم أحسن ما عملوا ذكر هؤلاء الجاحدين ، وانهم وثقوا بالباطل ، واعتقدوه حقا ينفعهم عند الله ، تماما كالظامئ يثق بالسراب الغرّار الخدوع ، فإذا أراد أن ينهل منه وجده هجيرا يزيده ظمأ على ظمأ .. ولا يختص هذا الوصف بمن كفر بالله أو بنبوة محمد (ص) .. كلا ، فانه ينطبق على الكثيرين من أمة محمد (ص) الذين يظنون بأنفسهم الخير والتقوى ، وهم مطية الشيطان ، وأعداء الرحمن .. وهل يجتمع الخير والتقوى مع الغرور والحقد على عباد الله ، والتكالب على الدنيا وحطامها؟.
(وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ). وجد الله أي وجد حسابه وجزاءه ، وضمير عنده يعود الى العمل ، أو الى المجيء الذي دلت عليه كلمة جاءه ، والمعنى ان الكافر يعتقد ، وهو في دار الدنيا انه سوف ينجو من عذاب الله بما قدم من صالح الأعمال .. ولكنه حين يقف بين يدي الله لنقاش الحساب لا يجد شيئا مما توهم وتخيل ، بل يجد ذنوبا وآثاما ، وحسابا وعقابا ، وخاب منه الأمل تماما كما خاب من وثق بالسراب.
(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها). بحر عميق الغور ، تتراكب فوقه الأمواج الواحدة فوق الأخرى ، وفوق الجميع سحاب ثقيل كثيف .. وهذا أبلغ تشبيه لأهل الشهوات والأهواء الذين غرقوا في بحر القبائح والرذائل : كذب ورياء وحقد ودس وغرور وكبرياء وطمع وحرص .. الى ما لا نهاية ، ومن عاش في هذه الظلمات التي لا يرى فيها شيئا كيف يرى الحقيقة ويدركها؟
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). قال الطبرسي : المراد من لم يجعل الله له نجاة في الآخرة فلا نجاة له. والذي نفهمه نحن ان الذين لا يهتدون الى طريق الحق الذي أرشدهم الله اليه فإنهم يعيشون في حيرة الجهل والضلالة.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ). انظر الآية ٤٤ من سورة الإسراء ،