القرين الثاني : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) فإن القرين الأول لا يحتمل فيه الاطغاء والإغواء كي ينفيه عن نفسه لأن الله قد اختاره لمهمة الكتابة على علم بصلاحه وأمانته .. يضاف الى ذلك قوله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) فإن الاختصام غدا يكون بين المجرمين بعضهم مع بعض لا بينهم وبين غيرهم ، قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ـ ٦٧ الزخرف.
(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ). الخطاب من الله سبحانه الى المجرم وقرينه الشيطان ، والمعنى لا يقل بعضكم لبعض : أنت أغويتني ويقول الآخر : ما أغويتك ، فإن اليوم يوم حساب وجزاء ، ولا ينتفع المرء فيه بكلام ولا بغيره إلا بعمله الصالح ، وقد دعوتكم اليه ، وأنذرت من خالف منكم لقاء يومكم هذا فأبيتم إلا كفورا (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). المراد بالقول هنا أمره سبحانه في الآية السابقة للسائق والشهيد : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) وهذا الإلقاء حتم وعدل ، هو حتم لأن الله أمر به ولا تبديل لأمره ، وهو عدل لأن المجرم أهل له.
وتسأل : لقد ذهب كثير من العلماء الى ان الخلف بالوعيد جائز على الله دون الوعد ، وبهذا جاءت السنّة النبوية حيث قال الرسول الأعظم (ص) : «من وعد لأحد على عمله ثوابا فهو منجز له ، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار». يضاف الى ذلك ان العقل يستحسن الوفاء بالوعد ، ولا يستقبح الخلف بالوعيد ، فما هو الوجه ـ اذن ـ لقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)؟.
وأجاب بعض العلماء بأن الله سبحانه لا يعفو جزافا ، بل لسبب موجب : والعفو كذلك ليس من تبديل القول في شيء .. ونضيف نحن الى هذا الجواب ان المراد بالوعيد هنا الوعيد بعذاب (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) وليس كل وعيد وتهديد ، لأن هذا المعتدي الأثيم لا كفارة له ولا شفيع عند الله ـ كما نظن ـ.
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ). هذا كناية عن شدة لهبها ، وأليم عذابها ، وانها لا تضيق بالمجرمين بالغا ما بلغ عددهم ، وقد وصف سبحانه جهنم في العديد من آياته بأوصاف رهيبة مخيفة تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ، أما الذين في قلوبهم مرض فيسخرون منها وممن آمن بها