سبحانه نوحا الى قومه بأمور ثلاثة : الأول أن يتركوا عبادة الأصنام ويعبدوا إلها واحدا. الثاني أن يفعلوا الخير ويتقوا الشر. الثالث أن يطيعوه فيما يأمر وينهى ، وضمن لهم ـ إن استجابوا ـ أمرين : الأول (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) التي اقترفتموها قبل الايمان لأن الايمان يجبّ ما قبله. أما الذنوب التي ارتكبوها بعد الايمان فإنهم مسؤولون عنها ، وهذا ما تومئ اليه كلمة «من ذنوبكم».
الأمر الثاني (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). إذا آمنتم بالله وحده يدرأ عنكم عذاب الاستئصال بالطوفان ونحوه ، ويمهلكم حتى تستوفوا العمر الطبيعي ، ويؤجل حساب من يذنب منكم الى يوم القيامة ، وإلا عجّل لكم عذاب الاستئصال في الدنيا (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون.
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً). ليلا ونهارا أي دائما : دعاهم نوح دعوة الحق ، وألح عليهم حتى (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) ـ ٣٢ هود ولكنه مضى في دعوته ، ومضوا بدورهم في العناد والنفور (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) جعلوا أصابعهم في آذانهم أي سدوا مسامعهم عن دعوة الحق ، واستغشوا ثيابهم تغطوا بها كيلا يروا وجه الداعي ، وقد يكون هذا حقيقة ، ويجوز أن يكون تعبيرا مجازيا عن عنادهم وإصرارهم على الضلال ، وأيا كان فإن المعنى واحد ، وهو النفور من دعوة الحق تعاظما على نوح الذي يرونه دونهم منزلة ومقاما فكيف يكونون في عداد أتباعه ، كما جاء في الآية ٢٧ من سورة هود : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ).
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً). قال جماعة من المفسرين : ان قول نوح أولا : دعوت قومي ليلا ونهارا ، وقوله ثانيا : دعوتهم جهارا ، وقوله ثالثا : أعلنت وأسررت ـ يدل على ان دعوته كانت على ثلاث مراتب : ابتدأها في السر ، ثم ثنى بالجهر ، ثم ثلّث بالإعلان والسر معا. وليس هذا بعيدا عن ظاهر الآيات ، ولكن يجوز أن يكون مراد