ولا شيء أبلغ من تكرار اللعن على أهل البغي والعدوان (ثُمَّ نَظَرَ) بعد ان فكر وقدر رفع بصره الى عتاة قريش (ثُمَّ عَبَسَ) قطب حاجبيه (وَبَسَرَ) كلح وجهه وتغير لونه (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ). أيقن وهو يفكر أن القرآن حق لا ريب فيه ، ومع هذا أعرض عن الحق واستعلى عليه (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أخذه محمد عن السحرة والكهنة .. وتدلنا هذه الصورة التي رسمها القرآن للوليد ، وهي تفكيره وتقديره وعبوسه وبسوره ، تدلنا انه كان تائها حائرا فيما يدبر من الكذب والباطل لما يعتقده حقا وصدقا.
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) ضمير أصليه يعود الى الوليد ، وسقر من أسماء جهنم (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ). فإنها بلغت من الهول حدا يفوق التصور ، من ذلك انها (لا تُبْقِي) على أحد من المجرمين (وَلا تَذَرُ) لونا من ألوان العذاب إلا أنزلته بهم (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ). البشر هنا جمع بشرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان ، ومعنى لواحة في الأصل مغيرة ، والمراد بها هنا النضوج لقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) ـ ٥٦ النساء.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ). ضمير عليها يعود الى سقر ، والتسعة عشر خزنة جهنم ، وهل المراد تسعة عشر فردا أو نوعا أو قائدا؟. الله أعلم. ويروى ان أبا جهل قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء التسعة عشر؟ فقال رجل يدعى أبو المشد : أنا أكفيكم سبعة عشر ، فاكفوني اثنين فقط. قال هذا ساخرا كما سخر أبو جهل.
(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً). ليس الخزنة من نوع البشر .. انهم ملائكة شداد غلاظ ، لا يقوى عليهم إلا الواحد القهار الذي خلق كل شيء.
وكأنّ سائلا يسأل : ما هو القصد من ذكر العدد مع انه يفتح باب التضليل والسخرية للجاحدين؟ فأجاب سبحانه بأن لذكره فوائد ثلاثا :
١ ـ (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). أجل ، ان الله يعلم ان المشركين متى سمعوا العدد ضحكوا واستهزأوا ومع هذا ذكره إظهارا للحق لأن الحق يجب أن يعلن ويقال حتى ولو كان من نتائجه سخرية الساخرين .. وبكلام آخر ان الله سبحانه يختبر عباده ، وهو أعلم بهم من أنفسهم ، يختبرهم بالسراء