الناس ان هذا الوقت مذموم ، فأقسم الله به لينبه على ان الزمان لا يذم ، وانما هو ظرف للحسنات والسيئات ولشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال ، وانما يذم ما فيه من الأفعال الممقوتة.
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). هذا جواب القسم ، والمراد بالإنسان من كان موضوعا للتكليف ومسؤولا عن أقواله وأفعاله ، وهذا الإنسان خائب خاسر بحكم القرآن وإن كان ثريا يملك الملايين ، وعالما يكشف أسرار الطبيعة ويسخرها لمصلحته ، وقويا يخضع الناس لسيطرته ، وبليغا يحسن صناعة الكلام والوعظ .. انه خائب خاسر إلا إذا آمن بالله وحلاله وحرامه وناره وجنته ، وانعكس هذا الايمان على أقواله وأفعاله ، وإلا فإن الايمان بلا عمل مجرد فكرة ونظرية .. ولقد قرأت فيما قرأت ان الطيارين الأمريكان الثلاثة الذين ألقوا القنبلة الذرية على هيروشيما في اليابان ، ومات وتشوّه بسببها مئات الألوف ، كان كل واحد منهم يحمل معه نسخة من «الكتاب المقدس» الى جانب قنبلة الفناء والدمار!! وتسأل : أليس قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) يدل بظاهره ان الإنسان خاسر بطبعه ، وان جميع أفراده في الخسر سواء ، وإذ كان الأمر كذلك فلا يصح تقسيم الإنسان الى صالح وطالح وخاسر ورابح لأن ما بالذات لا يتغير؟ وبالتالي فما هو المبرر لقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)؟.
الجواب ان الله سبحانه لم يحكم على طبيعة الإنسان بالخسر من حيث هو وباعتبار جميع أفراده .. كلا ، وانما حكم عليه باعتبار الأعم الأغلب من أفراده ، ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً). فالإنسان بطبعه لا يعد خاسرا ولا رابحا لأنه من هذه الحيثية يملك الأهلية والاستعداد لهما معا ، فالحكم عليه بأحدهما ترجيح بلا مرجح ، وانما يحكم عليه بأحد الوصفين بالنظر الى عقيدته واعماله ، لا بالنظر الى ذاته وطبعه ، فقد أشرنا فيما سبق أكثر من مرة ان الله سبحانه وهب الإنسان العقل والقدرة على الشر والخير وأمره بهذا ونهاه عن ذلك ، وخلى بينه وبين ما يختار ولم يفرض الدين والعمل عليه فرضا ويخلقهما فيه كما يخلق الكائنات ، ولو فعل لسلخ الانسانية عن الإنسان إذ لا انسانية بلا حرية وإرادة ، وعليه فلا يكون الإنسان خاسرا ولا رابحا إلا باعتبار عقيدته وأعماله ، فقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ