والخطاب في قوله : (خَلَقَكُمْ) لجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، فإن الناس لا يعدون هذين القسمين.
والفاء في (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) عاطفة على جملة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) وليست عاطفة على فعل (خَلَقَكُمْ) وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب.
ونظيره قوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ٢٦] ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] فجملة (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) هي المقصود من التفريع ، وهو تفريع في الحصول ، وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى في (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) [التغابن : ٥].
وجملة (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) تتميم وتنويه بشأن أهل الإيمان ومضادّة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال.
وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تتميم واحتراس واستطراد ، فهو تتميم لما يكمّل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوبا على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك. ودون تفصيل هذا تطويل نخصه بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله. ونقتصر هنا على أن نقول : خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقدرة العبد (والخلاف في التعبير). وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد ، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نظما مرتبطا بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرها في طرائقها ولا يعطل عملها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كلّ لأن النظم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح ، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سمي بالكسب على أصولنا أو بالقدرة الحادثة على أصول المعتزلة ، بل جعل بحكمته بين الخلق والكسب حاجزا هو نظام تكوين الإنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة ، وقد أشار إلى هذا قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي هو بصير به من قبل أن تعملوه ، وبعد أن عملتموه.