وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم : افتراه ، أو هو مجنون ، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنونا أو كاذبا إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم ، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف.
والمعنى : ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبه إلى الله تعالى.
و (قَلِيلاً) في قوله : (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٤٦] ، وهو أسلوب عربي ، قال ذو الرمة :
أنيحت ألقت بلدة فوق بلدة |
|
قليل بها الأصوات إلّا بغامها |
فإن استثناء بغام راحلته دل على أنه أراد من (قليل) عدم الأصوات.
والمعنى : لا تؤمنون ولا تذكرون ، أي عند ما تقولون هو شاعر وهو مجنون ، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعد. وقد تقدم في سورة البقرة [٨٨] قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ).
وانتصب (قَلِيلاً) في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه (تُؤْمِنُونَ) و (تَذَكَّرُونَ) أي تؤمنون إيمانا قليلا ، وتذكّرون تذكرا قليلا.
و (ما) مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي :
قليلا به ما يحمدنّك وارث |
|
إذا نال مما كنت تجمع مغنما |
وجملتا (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) معترضتان ، أي انتفى أن يكون قول شاعر ، وانتفى أن يكون قول كاهن ، وهذا الانتفاء لا يحصّل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد.
وقرأ الجمهور (ما تُؤْمِنُونَ) ، و (ما تَذَكَّرُونَ) كليهما بالمثناة الفوقية ، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر (واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر) ويعقوب بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسّن ذلك كونهما معترضتين.
وأوثر نفي الإيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر ، ونفي التذكّر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن ، لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزائه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخر