(نَذِيرٌ) لدلالة قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) عليه. والتقدير : إنّي لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقوه ولم تطيعوني.
والمبين : يجوز أن يكون من أبان المتعدّي الذي مجرده بان ، أي موضّح أو من أبان القاصر ، الذي هو مرادف بان المجرد ، أي نذير واضح لكم أني نذير ، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم ، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء [١٠٩ ، ١١٠] (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).
وتقديم (لَكُمْ) على عامله وهو (نَذِيرٌ) للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته.
فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات ، وهي : النداء وجعل المنادى لفظ (يا قَوْمِ) المضاف إلى ضميره ، وافتتاح كلامه بحرف التأكيد ، واجتلاب لام التعليل ، وتقديم مجرورها.
و (أَنِ) في (أَنِ اعْبُدُوا) تفسيرية لأن وصف (نَذِيرٌ) فيه معنى القول دون حروفه ، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم ، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس [٧١] (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلا تاما.
واتقاء الله اتقاء غضبه ، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات. والمراد : حال من أحوال الذات من باب (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي أكلها ، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به. وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون : لم يكن في شريعة نوح إلّا الدعوة إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تطلب الطاعة فيها ، لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال ، فقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ينصرف بادئ ذي بدء إلى ذنوب الإشراك اعتقادا وسجودا.
وجزم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) في جواب الأوامر الثلاثة (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) ، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم. وهذا وعد بخير الآخرة.
وحرف (مِنْ) زائد للتوكيد ، وهذا من زيادة (مِنْ) في الإيجاب على رأي كثير من أئمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جنيّ من البصريين وهو قول الكسائي