الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف [٢٩ ، ٣٠] (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) الآيات.
ومعنى القول هنا : إبلاغ مرادهم إلى من يريدون أن يبلّغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها ، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن فيما يظهر ، فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] فيكون ذلك تكريما لهذا الدّين أن جعل الله له دعاة من الثقلين.
ويجوز أن يكون قولا نفسيا ، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادة صاحب الإدراك به إبلاغ مدركاته لغيره ، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد :
قالت له النفس إني لا أرى طمعا |
|
وإن مولاك لم يسلم ولم يصد |
ومنه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) [المجادلة :٨].
وتأكيد الخبر ب (أنّ) لأنهم أخبروا به فريقا منهم يشكون في وقوعه فأتوا في كلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف (إن).
ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى ، أي يعجب منه ، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.
وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه. قال المازري في «شرح صحيح مسلم» «لا بد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة ، وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول ؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو علموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمّي الصادق المبشر به» ا ه. وأنا أقول : حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها ، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلىاللهعليهوسلم وللقرآن.
والإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً).
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصدق رسولهصلىاللهعليهوسلم