خيرها على شرها عرفنا مشيئة الله لأن تلك آثار مشيئته من مجموع نظام العالم ولأنه تعالى عالم بأنها تستتب لفلان ، فعلمه بتوفرها مع كونها آثار نظامه في الخلق وهو معنى مشيئته ، وإذا تعاكست وتنافر بعضها مع بعض ولم يرجح خيرها على شرها بل رجح شرها على خيرها بالنسبة للفرد من الناس تعطل وصول الخير إلى نفسه فلم يشأه ، عرفنا أن الله لم يشأ له قبول الخير وعرفنا أن الله عالم بما حفّ بذلك الفرد ، فذلك معنى أن الله لم يشأ له الخير ، أو بعبارة أخرى أنه شاء له أن يشاء الشر ، ولا مخلص للعبد من هذه الربقة إلّا إذا توجهت إليه عناية من الله ولطف فكوّن كائنات إذا دخلت تلك الكائنات فيما هو حاف بالعبد من الأسباب والأحوال غيّرت أحوالها وقلبت آثارهما رأسا على عقب ، فصار العبد إلى صلاح بعد أن كان مغمورا بالفساد فتتهيأ للعبد حالة جديدة مخالفة لما كان حافا به ، مثل ما حصل لعمر بن الخطاب من قبول عظيم الهدى وتوغله فيه في حين كان متلبسا بسابغ الضلالة والعناد.
فمثل هذا يكون تكرمة من الله للعبد وعناية به ، وإنما تحصل هذه العناية بإرادة من الله خاصة : إما لأن حكمته اقتضت ذلك للخروج بالناس من شر إلى خير كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهمّ أعز الإسلام بأحد العمرين» وإما بإجابة دعوة داع استجيب له فقد أسلم عمر بن الخطاب عقب دعوة النبي صلىاللهعليهوسلم المذكورة ودخل في الإسلام عقب قول النبيصلىاللهعليهوسلم له : «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم» ألا ترى أن الهداية العظمى التي أوتيها محمّد صلىاللهعليهوسلم كانت أثرا من دعوة إبراهيم عليهالسلام بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] الآية قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنا دعوة إبراهيم».
فهذا ما أمكن من بيان هاتين المشيئتين بحسب المستطاع ولعل في ذلك ما يفسر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في معنى الكسب والاستطاعة «إنها سلامة الأسباب والآلات».
وبهذا بطل مذهب الجبرية لأن الآية أثبتت مشيئة للناس وجعلت مشيئة الله شرطا فيها لأن الاستثناء في قوة الشرط ، فللإنسان مشيئته لا محالة.
وأما مذهب المعتزلة فغير بعيد من قول الأشعري إلّا في العبارة بالخلق أو بالكسب ، وعبارة الأشعري أرشق وأعلق بالأدب مع الله الخالق ، وإلّا في تحقيق معنى مشيئة الله ، والفرق بينها وبين الأمر أو عدم الفرق وتفصيله في علم الكلام.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب (وَما تَشاؤُنَ) بتاء الخطاب على