أن يرى مبصر ويسمع واع
ويكون الاستثناء من أحوال ، أي وما تحصل مشيئتكم في حال من الأحوال إلّا في حال حصول مشيئة الله. وفي هذا كله إشارة إلى دقة كنه مشيئة العبد تجاه مشيئة الله وهو المعنى الذي جمع الأشعريّ التعبير عنه بالكسب ، فقيل فيه «أدق من كسب الأشعري». ففي الآية تنبيه الناس إلى هذا المعنى الخفي ليرقبوه في أنفسهم فيجدوا آثاره الدالة عليه قائمة متوافرة ، ولهذا أطنب وصف هذه المشيئة بالتذييل بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فهو تذييل أو تعليل لجملة (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) [الإنسان : ٣١] ، أي لأنه واجب له العلم والحكمة فهو أعلم فمن شاء أن يدخله في رحمته ومن شاء أبعده عنها.
وهذا إطناب لم يقع مثله في قوله تعالى في سورة عبس [١١ ، ١٢] : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) لأن حصول التذكر من التذكرة أقرب وأمكن ، من العمل بها المعبر عنه بالسبيل الموصلة إلى الله تعالى فلذلك صرفت العناية والاهتمام إلى ما يلوّح بوسيلة اتخاذ تلك السبيل.
وفعل (كانَ) يدل على أن وصفه تعالى بالعلم والحكمة وصف ذاتي لأنهما واجبان له.
وقد حصل من صدر هذه الآية ونهايتها ثبوت مشيئتين : إحداهما مشيئة العباد ، والأخرى مشيئة الله ، وقد جمعتهما هذه الآية فكانت أصلا للجمع بين متعارض الآيات القرآنية المقتضي بعضها بانفراده نوط التكاليف بمشيئة العباد وثوابهم وعقابهم على الأفعال التي شاءوها لأنفسهم ، والمقتضي بعضها الآخر مشيئة لله في أفعال عباده.
فأما مشيئة العباد فهي إذا حصلت تحصل مباشرة بانفعال النفوس لفاعليّة الترغيب والترهيب ، وأما مشيئة الله انفعال النفوس فالمراد بها آثار المشيئة الإلهية التي إن حصلت فحصلت مشيئة العبد علمنا أن الله شاء لعبده ذلك وتلك الآثار هي مجموع أمور تتظاهر وتتجمع فتحصل منها مشيئة العبد.
وتلك الآثار هي ما في نظام العالم والبشر من آثار قدرة الله تعالى وخلقه من تأثير الزمان والمكان وتكوين الخلقة وتركيب الجسم والعقل ، ومدى قابلية التفهم والفهم وتسلط المجتمع والبيئة والدعاية والتلقين على جميع ذلك ، مما في ذلك كله من إصابة أو خطأ ، فإذا استتبت أسباب قبول الهدى من مجموع تلك الآثار وتلاءم بعضها مع بعض أو رجح