القرآني ، إذ رفع الآية الناسخة لحكم الآية المنسوخة لا يلغي كل الخصوصيات المتعلقة بالمنسوخ.
فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها ، وبالنسخ يزول أثر الشيء من تكليف أو غيره مع بقاء أصله ، فالآية المنسوخة ربما كانت ذات جهة واحدة ، وربما كانت ذات جهات كثيرة ، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة ، فالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.
«فالناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته ، وإنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة ، فإذا توفى نبي وبعث نبي آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر ، كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل الأفراد من الإنسان ، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت ، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة ، وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام ، وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين ، والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (١) المنسوخ بآية القتال ، وقوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (٢) المنسوخ بآية الجلد فقوله : حتى يأتي الله بأمره ، وقوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) لا يخلو عن
__________________
(١) سورة البقرة : ١٠٩.
(٢) سورة النساء : ١٥.