(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل : ١٢٥].
وأخبر الله تعالى عن قوم نوح عليهالسلام أنهم قالوا : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [سورة هود : ٣٢].
وقد نص تعالى في غير موضع من كتابه على أصول البراهين ، وقد نبهنا عليها في غير ما موضع في كتابنا هذا. وحضّ تعالى على التفكر في خلق السماوات والأرض ، ولا يصح الاعتبار في خلقهما إلّا بمعرفة هيئاتهما ، وانتقال الكواكب في أفلاكهما واختلاف حركاتها في التغريب والتشريق ، وأفلاك تداويرها ، وتعارض فلك الأدوار على رتبة واحدة ، وكذلك معرفة الدوائر ، والمنطقة ، والميل والاستواء ، وكذلك معرفة الطبائع ، وامتزاج العناصر الأربعة وعوارضها ، وتركيب أعضاء الحيوان من عصبه وعضله وعظامه وعروقه وشرايينه ، واتصال أعضائه بعضها ببعض ، وقواه المركبة. فمن أشرف على ذلك وعلمه ، رأى عظيم القدرة ، وتيقّن أنّ ذلك كله صنعة ظاهرة ، وإرادة خالق قاصد مختار ، لأن اختلاف تلك الحركات تضطر إلى المعرفة بأنّ شيئا منها لا يقوم بنفسه دون ممسك مدبّر لا إله إلا هو ، ولا خالق سواه ، ولا مدبّر حاشاه ولا فاعل مخترع إلا هو. ثم زاد قوم منهم فأتوا بالأفيكة (١) التي تقشعرّ منها الذوائب ، وهي أن أطلقوا أنّ الدّين لا يؤخذ بحجة ، فأقروا عيون الملحدين ، وشهدوا أنّ الدين لا يثبت إلا بالدّعاوى والغلبة ، وهذا خلاف قول الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١].
وقوله تعالى : (فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) [سورة الرحمن : ٣٣].
هذا قول الله عزوجل ، وما جاء به نبيه صلىاللهعليهوسلم. وفي ذلك الكفاية والغناء عن قول كل قائل بعده.
وقد حاجّ ابن عباس الخوارج ، وما علمنا أحدا من الصحابة رضي الله عنهم ، نهى عن الاحتجاج ، فلا معنى لرأي من جاء بعدهم ، فكان كلام هذه الطائفة مغريا للطائفة الأولى بكفرها ، ومغبطا لهم بشركهم ، إذ لم يروا في خصومهم في الأغلب إلّا من هذه صفته ، ثم زادت هذه الطائفة الثانية غلوّا في الجنون فعابوا كتبا لا معرفة لهم بها ، ولا طالعوها ، ولا رأوا منها كلمة ، ولا قرءوها ، ولا أخبرهم عمّا فيها ثقة ، كالكتب التي فيها هيئة الأفلاك ، ومجاري النجوم ، والكتب التي جمعها «أرسطاطاليس» في حدود الكلام.
__________________
(١) جمع إفك ، وهو الكذب والاختلاق.