تعالى شأنه في سورة هل أتى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(١) فانه واقع في ذيل قوله تعالى: (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، وحيث انه أمر خير أسند ذلك إلى الله ، وهكذا ما ورد في الحديث القدسي وما مضمونه «بمشيئتي أنت الّذي تشاء».
وبالجملة لا منافاة بين ثبوت الأمر بين الأمرين ، وكون نسبة الأعمال من المعاصي والطاعات إلى المولى وإلى العبد على حد سواء بحسب الدقّة العقلية ، وكون إسناد الطاعة إلى الله جلّ شأنه أولى عرفا ، وإسناد المعصية إلى العبد أولى كذلك ، ونوضّحه بمثال عرفي ، فانه لو أعطى الوالد لولده مالا وبيّن له طرق التجارة وطرق الملاهي ، وأمره بالتجارة ونهاه عن صرف المال في الملهى وحذّره ذلك ، فان صرف الولد المال في التجارة وربح منها يسند الربح إلى المولى عرفا ، ويقال هذا الخير وصل إلى الولد من والده ، وأما لو صرفه في اللهو والخسران يسند ذلك عرفا إلى الولد ، ويقال هو خسّر نفسه ، ونظير ذلك إسناد الطاعات إلى المولى الحقيقي والمعاصي إلى العبد ، وهذا معنى الأولويّة.
واما ما ورد في الأخبار من انّ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فلا ينافي ما اخترناه من الأمر بين الأمرين ، فانّ المراد منه الصفات والملكات النفسانيّة ، وكما تختلف القوى الجسمانية في الأشخاص من الباصرة والسامعة ونحو ذلك ، فترى إنسانا لا يقدر على حمل منّ وإنسانا آخر يقدر على حمل وزنة أو أكثر ، وقد سمعنا بمن كان قادرا على حمل عشرين وزنة ، كذلك يختلف الأشخاص من حيث المحامد والرذائل النفسيّة ، فنرى إنسانا يكون في ذاته كريما أو سخيّا أو شجاعا ونرى الآخر بخيلا لئيما ، وربما تتبدّل تلك الصفات بالرياضات.
فقد يكون الإنسان قريبا من الطاعات والخيرات وترى الآخر قريبا من
__________________
(١) الإنسان ـ ٣٠.