لنا في جميع ذلك : تصويب العقلاء من مدح أو أحسن إلى المحسن ولو تراخى ، ومن ذم أو عاقب المسيء ولو تراخى ، ولنا عدم حكمهم بأيها في حق من استظل تحت شجرة لا مالك لها ، أو تناول شربة من ماء غير مجاز.
قالوا : لو سلم على التنزل لم يسلم في مسألتين :
الأولى : وجوب شكر المنعم ؛ لأن النعم عند الله حقيرة لسعة ملكه ، فيكون كمن تصدق عليه الملك بلقمة ، فإذا تحدث المنعم بالشكر لأجلها عد ساخرا لا شاكرا.
الثانية : حكم الأشياء قبل ورود الشرع (١) فلا يدرك العقل فيها جهة حسن ولا قبح ؛ إذ هو تصرف في ملك الغير بغير إذنه.
والجواب عن الأولى : أن اللقمة حقيرة عندهما والسامع فيكون ساخرا ، بخلاف نعم الله سبحانه وتعالى فإنها وإن كانت حقيرة عند الله سبحانه وتعالى لسعة ملكه فهي جليلة عند الشاكر والسامع ، فالمتحدث بالشكر عليها لا يعد ساخرا ، كمن أعطاه ملك قد ملك الأرض وجبالا من الذهب بدرة عين ، فإن البدرة عنده حقيرة ، وعندهما جليلة ، ولو سلمنا لزم أن يجعلوا لله تعالى علوا كبيرا صفة نقص ، حيث أمر أن يسخر به في قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٢) إذ ذلك صفة نقص عند العقلاء ، مع أن استحقارهم لنعم الله تعالى رد منهم لقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٣) وقوله تعالى : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (٤) ومن رد آية كفر بإجماع الأمة المعلوم ، بل ذلك معلوم من الدين ضرورة.
__________________
(١) في نسخة (قبل ورود الشرع بها).
(٢) الضحى : ١١.
(٣) النساء : ٥٤.
(٤) النساء : ١١٣.