واقعا ، فرجّح استحقاق العقاب بفعله ، الّا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فإنّه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا ، أو في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة فإنّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا ، بل يختلف بالوجوه
____________________________________
إلزامي سواء كان بالاعتقاد الجزمي أو الظني المعتبر فلا يخلو الأمر ؛ إمّا أن يكون موافقا للواقع أو مخالفا له ، وعلى الثاني ؛ إمّا أن يكون الحكم الواقعي المخالف لما اعتقده حكما إلزاميا كالوجوب أو غير إلزامي كالإباحة والاستحباب ، وعلى تقدير كونه إلزاميا لا يخلو ؛ إمّا أن يكون تعبّديا يعتبر في سقوطه قصد القربة ، أو توصّليا ، فإن كان موافقا للواقع فليس عليه إلّا عقاب واحد ، ويأتي في كلام المصنّف رحمهالله حيث نسب إلى صاحب الفصول القول بتداخل العقاب فيما لو صادف التجرّي المعصية ، فإن كان مخالفا للواقع وكان الواقع حكما غير إلزامي أو إلزاميا تعبّديا فيحكم باستحقاق العقاب على مخالفة ما اعتقده.
نعم ، لو كان الواقع حكما إلزاميا توصّليا كما أشار اليه بقوله : (تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة) فيحكم بعدم استحقاق العقاب عليه (مطلقا) أي : سواء كانت مصلحة الواقع أقوى من مفسدة التجرّي أو مساوية لها أو (في بعض الموارد) أي : فيما لم تكن الجهة الظاهرية غالبة على الجهة الواقعية ، وأمّا إذا كانت مفسدة التجرّي أقوى ، فيحكم حينئذ بقبحه.
قوله : (غير مشروط بقصد القربة) التقييد بقصد القربة يكون لإخراج الواجب التعبّدي اذ لا يتصوّر في مورده التعارض بين المصلحة الواقعية في الواجب مع المفسدة الظاهرية في التجرّي حتى يرتفع قبحه ، لأنّ الواجب التعبّدي من دون قصد القربة لا مصلحة فيه ، وقصد القربة لا يتمشّى من المكلّف مع اعتقاده بالحرمة ، إذ لا يتقرّب بفعل الحرام ، فيختصّ التعارض بين الجهة الواقعية والجهة الظاهرية بالواجب التوصّلي.
فتحصّل ممّا ذكر أنّ الأقوال في مسألة التجرّي ثلاثة :
الأول : قول المشهور ، فيقولون : إنّ التجرّي علّة للقبح من حيث الفعل مطلقا.
والثاني : ما عند المصنّف رحمهالله من أنّ التجرّي علّة للقبح من حيث الفاعل مطلقا.
والثالث : هو التفصيل المنسوب إلى صاحب الفصول.
ثم الدليل والوجه على تفصيل صاحب الفصول :