(فَهُمْ غافِلُونَ) متعلّق بالنفي على الأوّل ، أي : لم ينذروا فبقوا غافلين. يعني : عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. أو بقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) على الوجوه الآخر ، أي : أرسلناك إليهم لتنذرهم ، فإنّهم غافلون عمّا أنذر الله من نزول العذاب.
ثمّ أقسم سبحانه مرّة اخرى فقال : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ) أي : وجب وثبت قولنا (عَلى أَكْثَرِهِمْ) يعني قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١) (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنّهم ممّن علم أنّهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتوغّلهم في الجحود.
ثمّ قرّر تصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم ، بحيث لا يغني عنهم الآيات والنذر ، بتمثيلهم بالّذين غلّت أعناقهم ، فقال :
(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ) أي : فالأغلال واصلة (إِلَى الْأَذْقانِ) إلى أذقانهم ، فلا تخلّيهم يطأطئون رؤوسهم له (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) رافعون رؤوسهم ، غاضّون أبصارهم. يقال : قمح البعير فهو قامح ، إذا روى فرفع رأسه ، فغضّ بصره ترفّها. والمعنى : أنّهم لا يلتفتون لفت الحقّ ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، بل كانوا رافعين رؤوسهم ، لاوين أعناقهم ، شامخين بأنوفهم ، لا ينظرون إلى الأرض ، فصاروا كأنّما جعلت الأغلال في أعناقهم.
ثمّ بتمثيلهم بالّذين أحاط بهم سدّان ، فغطّى أبصارهم بحيث لا يبصرون ما قدّامهم ووراءهم ، فقال :
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ) فأغشينا أبصارهم (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يعني : أنّهم محبوسون في مطمورة الجهالة ، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل ، لتسليمهم أنفسهم إلى الوساوس الشيطانيّة ، والهواجس النفسانيّة.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص : سدّا بالفتح. وهو لغة فيه. وقيل : ما كان بفعل
__________________
(١) هود : ١١٩.