ثمّ امتنّ سبحانه على خلقه بذكر فنون نعمه الأخر ، دالّا بذلك على وحدانيّته ، وكمال قدرته وعلمه ، فقال :
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أولادهم الّذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ، أو صبيانهم ونساءهم الّذين يستصحبونهم ، فإنّ الذرّيّة تقع عليهنّ ، لأنّهنّ مزارعها.
وفي الحديث : أنّه نهى عن قتل الذراري ، يعني : النساء. وتخصيصهم بالحمل في الفلك لضعفهم ، ولأنّه لا قوّة لهم على السفر كقوّة الرجال. فتمكّنهم في السفن أشقّ ، وتماسكهم فيها أعجب. وقرأ نافع وابن عامر : ذرّيّاتهم.
(فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء. وقيل : المراد فلك نوح. وحمل الله ذرّيّاتهم فيها ، أنّه حمل فيها آباءهم الأقدمين ، وفي أصلابهم ذرّيّاتهم. وتخصيص الذرّيّة ، لأنّه أبلغ في الامتنان ، وأدخل في التعجّب من قدرته ، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح.
وعن الضحّاك وقتادة وجماعة من المفسّرين : أنّ المراد من ذرّيّتهم آباؤهم وأجدادهم الّذين هؤلاء من نسلهم ، في سفينة نوح المملوءة من النّاس ، وما يحتاج إليه من فيها ، فسلموا من الغرق ، فانتشر منهم بشر كثير. وسمّي الآباء ذرّيّة من : ذرأ الخلق ، لأنّ الأولاد خلقوا منهم. ويسمّى الأولاد ذرّيّة ، لأنّهم خلقوا من الآباء.
(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) من مثل الفلك (ما يَرْكَبُونَ) من الإبل ، فإنّها سفائن البرّ. أو من مثل سفينة نوح من السفن والزوارق.
(وَإِنْ نَشَأْ) إذا حملناهم في السفن (نُغْرِقْهُمْ) بتهييج الرياح والأمواج (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) ينجون من الموت به (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً) إلّا لرحمة ولتمتيع بالحياة (إِلى حِينٍ) زمان قدّر لآجالهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) من الوقائع الّتي خلت في الأمم المكذّبة