إلى المضغة ، ومنها إلى العظم ، ومنه إلى أن جعلناه خلقا سويّا. ثمّ جعلنا فيه الروح ، وأخرجناه من بطن أمّه ، ثمّ نقلناه من حال إلى حال ، حتّى كمل عقله ، وصار متكلّما خصيما. وذلك قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي : مخاصم ذو بيان. فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة ، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء؟
وهذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. وفيه تقبيح بليغ لإنكاره ، حيث عجّب الله منه ، وجعله إفراطا في الخصومة بيّنا. ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون ممّا عمله في بدء خلقه. ومقابلة النعمة الّتي لا مزيد عليها ـ وهي خلقه من أخسّ شيء وأمهنه شريفا مكرّما ـ بالعقوق والتكذيب.
وقيل : معناه : فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا ، رجل مميّز منطيق قادر على الخصام ، معرب عمّا في نفسه ، فصيح.
ثمّ أكّد سبحانه الإنكار عليه ، فقال : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أمرا عجيبا. وهو إنكار قدرتنا على إحياء الموتى. أو تشبيهنا بخلقنا ، لوصفنا بالعجز عمّا عجزوا عنه. (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) خلقنا إيّاه.
ثمّ بيّن ذلك المثل بقوله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) منكرا إيّاه ، مستبعدا له. والرميم ما بلي من العظام. ولعلّه فعيل بمعنى فاعل ، من : رمّ الشيء.
صار اسما بالغلبة ، ولذلك لم يؤنّث. أو بمعنى مفعول ، من : رممته. والمراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضّة رطبة في بدن حيّ حسّاس ، لا بمعنى أنّ العظم ذو حياة ، فيؤثّر فيه الموت كسائر الأعضاء. ولهذا عندنا وعند أبي حنيفة طاهر. وكذلك الشعر والوبر والصوف ، وسائر ما لا تحلّه الحياة. والشافعي يقول : إنّ العظم ذو حياة ، فيؤثّر فيه الموت. ولذلك عنده عظام الميتة نجسة.
(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) لأنّ من قدر على اختراع ما يبقى فهو