هذا تمثيل في صيغة السؤال ، تمثيل للفرق بين الضالين الذين لجوا في عتو ونفور وبين المهتدين الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، فالضالون مثلهم كمثل الذي يمشي ووجهه الى الأرض يكثر العثار فيما لا يعثر فيه بصير ؛ أما المهتدون فمثلهم مثل الذي يسير على الطريق الواضح بجسم معتدل ، ونظر سليم. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ـ ٢٤ هودج ٤ ص ٢٢٢.
(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). لقد خلق الله لكم أسماعا فاتعظوا بما تسمعون ، وجعل لكم أبصارا فاعتبروا بما ترون من آيات ومعجزات ، ومنحكم عقولا فلما ذا لا تفقهون؟ وقال مفسر من القدامى : «ان الله سبحانه قدم السمع لأن فوائده أقوى من فوائد البصر ، فان السمع للخطاب ، والبصر للرؤية ، ومرتبة الخطاب أقدم». وقال اديب معاصر : «لا تتقدم كلمة على كلمة في القرآن الا لسبب ، ولا تتأخر كلمة عن كلمة إلا لسبب. وكمثل بسيط نجد ان القرآن يقدم السمع على البصر في الذكر في عديد من الآيات ، وهي مسألة يعرف سرها علماء التشريح ، فهم يدركون ان جهاز السمع أرقى وأعقد وأدق وأرهف من جهاز الأبصار .. والأم لا يتوه سمعها عن صوت بكاء ابنها وتميزه من بين آلاف الأصوات ، وتتوه عين أمه عنه في الزحام».
(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) لأن الله خلق الاسماع والأبصار والأفئدة للخير والصلاح ، وأنتم تستعملونها للشر والفساد (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ). ليس معنى ذرأكم خلقكم فقط ، بل فيه أيضا معنى التكثير بالنسل ليتسابقوا في مضمار الحياة وعمارتها واستدرار خيراتها. هذا ما قاله المفسرون ، ولو كانوا في هذا العصر لعقبوا على هذا التفسير بقولهم : ولكن الدول الكبرى تتسابق اليوم في مضمار التسلح ، وحرمان الجائعين من خيرات الأرض وبركاتها لتكون وقفا على مصانع الموت التي يملكها الطغاة المحتكرون. وتقول الاحصاءات : ان ما تنفقه دول العالم مجتمعة على السلاح أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة معا. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيأخذ المفسدين في الأرض بجرمهم وجريرتهم.
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). تكرر هذا السؤال من الجاحدين في العديد من الآيات ، وهو عجيب وغريب ، لأنه ما من عاقل إلا ويستدل بما